السبت، 13 أغسطس 2011

إستيراد رقص التعري

عندما يتمكن مركز واحد في العالم من صياغة منظومته الإقتصادية، فهو في ذات الوقت يتمكن من إجتياز مراحل هامة في صياغة نظامه الإجتماعي، فتصبح الثقافة الجمعية ذات طابع كوني، وينقسم العالم إلى مصدر للسلع ومستهلك لها، مصدر للثقافة ومستورد لها، وتبدأ خصوصيات الشعوب في الإنحسار، وهذا تحديداً ما فعلته حقبة العولمة الرأسمالية بعولمة الثقافة كذلك، وإستثمار خصوصيات الشعوب وتراثها لغايات الإستهلاك السياحي والتصوير "الثوب الكشميري في الباكستان، الحارات القديمة في سوريا، وجبة المنسف في الأردن، وتخزين القات في اليمن، والأهرامات في مصر ...إلخ". وهذا بحد ذاته يشكل التصور الأول لزيف الحرية الإجتماعية في دول الأطراف تحديداً كملازم لزيفها إقتصادياً. يتناول الأدب الليبرالي والليبريتاري التركيبة الإقتصادية الإجتماعية للمجتمعات المستهلكة كسلة متكاملة "إذا أردت إستيراد التكنولوجيا فعليك أن تقبل بإستيراد رقص التعري"، وهذا ما حدث في حقبة العولمة الرأسمالية التي جرت معها تداخلات بين إستيراد الإقتصادي والإجتماعي .
في النظام القائم يتم تقسيم الحرية الإجتماعية إلى أصناف تأخذ كل منها مساراً منفصلاً، ويتم الحديث عن كل منها كمشروع "نضالي" مستقل بذاته: تحرر المرأة، وحرية التعبير عن الرأي، وحقوق الإنسان، وحرية العمل السياسي والتنظيم النقابي، والحرية الجنسية، والحرية الدينية. وبهذا تصبح مسألة الحرية مجزوءة، وقابلة أكثر للتفاوض، وقابلة أكثر للتزييف، وقابلة أكثر لتهرب السلطة من "منحها"كاملةً، وتصبح معزولة عن باقي أركان الحياة من الإقتصادي إلى السياسي، وتصبح غير ملموسة إلى الحد الذي تتوه معه التعريفات الحقيقية لها. تناول فانيجيم ( أحد أعلام الأممية المواقفية التي كان لها دوراً كبيراً في ثورة الطلبة في فرنسا عام 1968) تقسيمات الحرية الكاريكاتورية للسلطة " تحث السلطة كل واحد منا أن يكون مع أو ضد بريجيت باردو "وهناك 1000بريجيت اليوم"، مع أو ضد سيارة الستروين، مع أو ضد الأمم المتحدة،...... والقائمة تطول" يسأل الجميع عن رأيهم في "التفاصيل" من أجل منعهم من التفكير في المجموع .
"قل ما تشاء وسنفعل نحن ما نريد" هذا هو الشكل المتاح في تقسيمات الحرية للتعبير عن الرأي اليوم، تستطيع أن تنتقد من تشاء من رموز السلطة، لا لشيء سوى لأنه قابل للتعويض والمنظومة ستبقى وسيبقى الكلام كلاماً، أمريكا ما زالت على حالها بعد أوباما، ونهج الخصخصة بقي قائماً في الأردن بعد رحيل عوض الله، والخليج بقي خليجاً حتى مع إنقلابات الآباء على الأبناء، والعراق بقي محتلاً في المسافة الفاصلة بين علاوي والمالكي.يسمع صوت "التعبير عن الرأي" في حدود تاريخية فاصلة مختلفة تماماً تشبه الخطوات الأولى للثورات العربية الشعبية التي نراها اليوم.
أما فيما يتعلق بالحرية الجنسية على قياس وصفة المنظومة الرأسمالية، فلا بد هنا من إستحضار إسمين:هربرت ماركوز مؤلف العمل المهم "الإنسان ذو البعد الواحد"، وفريدريك إنجلس "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة".تحرير الطاقة الجنسية على نحو مقزز اليوم ما هو إلا عامل مهم في دورات الشحن والتفريغ للكل المجتمعي، هذا الكل المعاني من أقسى أشكال الإضطهاد والإستلاب "القانون الأعمى والكاريكاتوري في فلسفة الحق، ساعات العمل الطويلة، توتر البحث عن الضمانات الإجتماعية الأساسية،....." لذلك جاء هذا التحرير للطاقة في أقصى أشكال التوتر والهروب، ولولا وجوده لربما إنفجر الضغط في مكانه الصحيح بموجب الشعور بالتعاسة والضيق اللازمين! أما فيما يتعلق بإنجلس وأصل العائلة فتناول التدرج التاريخي لأشكال العلاقات "الأسرة، الجنس،..."بالإستناد إلى تطور أنماط الإنتاج المتبعة تاريخياً في المجتمعات إبتداءاً بالمشاعية البدائية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية، من المجتمعات المطريركية إلى تلك البطريركية.لن تتمكن البشرية من معايشة "الحب الجنسي الفردي" و ستبقى حالات "الهيتيرية" قائمة، ما لم يصبح عنصر الإختيار حراً، بعيداً عن عنصر المال وتقديم الضمانات الإجتماعية اللازمة من الرجل للمرأة أو العكس، ولكي يصبح عنصر الإختيار حراً هناك معركة متصلة لا بد من خوضها في شقيها الإقتصادي والإجتماعي ، تحيد المنفعة عن وعي الإختيار ليولد طرفين، بندية وحرية حقيقية.
وفي "تحرر المرأة"يتم تناول المسألة كبند خاص في إحدى فصول الحرية، وتوزع الملصقات إستجداءً للرحمة"وتصدح البرامج التلفزيونية والإذاعية مناجية أصحاب العمل بفرص عمل نسوية، وتتأسس تنظيمات حماية الأسرة لكف أيدي الضرب الذكورية عنهن، وتنطلق البرامج الداعية ل"خرط" المرأة في المجتمع. كل هذا وليس هناك من مجيب! وألكساندرا كولونتاي ملكت الإجابة في محاضراتها التسع عندما تعرضت لواقع المرأة في المجتمعات الزراعية وواقعها في عصر الرأسمالية.
وفي الحرية الدينية ينتقل الحق من العام إلى الخاص وبالعكس، ويصبح هناك دين "متنور" وآخر "ظلامي" ليتسنى تنويع سبل المواجهة، فلهؤلاء المتنورين كل القبول والإحترام طالما أن هذا الدين لم يؤخذ كسلة متكاملة و لطالما أنهم قبلوا بدخول اللعبة تحت شعار المقدس، ولهؤلاء "الظلاميين"المطالبين بتطبيق المنظومة كاملة فلهم القتل والتعذيب وبذلك ترتفع رصائد المعذبين حراس الحرية الجدد.
لقد قسمت الرأسمالية الحرية إلى أصناف عديدة، وفتحت الباب "للنضال"في سبيل إنتزاعها جميعاً كل على حدا.الحرية اليوم هي إحدى الأسئلة القاسية لهذا العصر المزيف، ولن ترى النور بثورات مبعثرة فهي ما زالت تنتظر "ثورة شاملة".0       

أكاذيب الملكية الفكرية

يقال أننا نعيش في ثورة تكنولوجية إتصالاتية تطورت معها أدوات الإتصال إلى حد غير مسبوق، ويقال أننا نعيش في ثورة معلومات أصبح من السهل معها الحصول على كل المعلومات على إختلاف حساسيتها وتأثيرها.على المستوى التقني هذا الكلام صحيح، فالثورة التكنولوجية اليوم تحيا حالة تسارع وتطور كبير. ولكن يتبقى هناك مجموعة من الأسئلة العالقة: هل رافق هذه الثورة التقنية ثورة على صعيد الوعي الإجتماعي؟ هل تطور مستوى التواصل وتبادل المعلومات تقنياً رافقه تطور للشعوب المتخلفة في خضم "التسهيلات"للحصول على المعلومة؟ هل رافق تطور أدوات الإتصال إستثمارها بحرية مطلقة للتعبير والتحشيد لفكرة ما، دون ملاحقات أمنية تقنية الطابع والوسائل كذلك؟ هل من السهل اليوم الإستفادة من أدوات الإتصال لغايات البحث العلمي وخارج عباءة "المصدر"؟
في هذا السياق يأتي الحديث عن الملكية الفكرية التي جرى ترويجها وكأنها مفهوم مطلق. فمع كل التطور التقني الحاصل، تبقى الفكرة مملوكة، مملوكة لغايات الإحتكار، وتبقى الفكرة محاطة بأسوار تقنية تمنع الوصول إليها، وقد تكون الفكرة "مسروقة" لأن أحداً آخر نطق بها قبل أن يفعل آخر تؤرقه بشغف منذ سنوات.
في عام 2004 قام كل من ألما سوان وشريدان براون بعمل دراسة بدعم مشترك من مجتمع أنظمة المعلومات ومؤسسة المجتمع المفتوح، كان هدف الدراسة فهم الإختلاف في طرق نشر الباحثين لأعمالهم، إما من خلال وسائل النشر المفتوحة ، أو نشر مقدمات الأبحاث ويتم الحصول على المعلومات كاملة من خلال الشراء.46% من الباحثين الناشرين في المصادر المفتوحة يفعلون ذلك لقناعتهم بالشكل المجاني لنشر الأبحاث، ولن يواصلوا النشر في أي مصدر يغير هذه السياسة. 69% من الباحثين الذين يستخدمون المصادر المحددة للنشر ينظرون إلى المصادر المفتوحة على أنها تخفض من قيمة البحث و"بريستيجه"!
في عالم البرمجيات، وقفت البرمجيات مفتوحة المصدر على النقيض من البرمجيات الإحتكارية. دعت هذه المجموعات إلى فتح مصادر الشيفرة، وتوزيعها للجميع، ضمن مجتمع حر ويشارك الجميع من مختلف بقاع الأرض في تطوير المنتج، لقد كان التطوير "الفوضوي" لهذه المنتجات التقنية سريعاً إلى حد الذي عجز معه أعداءهم التجاريين من  بناء "فيروس" لها! عملت هذه المجموعة تحت شعار "برمجيات حرة، مجتمع حر"وإستطاعت في أماكن عديدة من ضرب الشركات الإحتكارية وتجاوزتها حتى على المستوى التقني وكانت على يسار منظومتها المبنية على أسس حقوق الملكية "Copy Left" . في ذات الوقت واصلت الشركات الإحتكاريةأكاذيبها وخدعها كإصدار النسخ المضروبة لغايات بيع علاجها لاحقاً، وكانت تستشهد بمثال إفلاس إحدى الشركات المصنعة للسيارات المستخدمة في تورزيع الحليب في بريطانيا، نظراً لتصميمها السيارات بكفاءة عالية مما سبب ضرب أرباح الصيانة.
إن حقوق الملكية الفكرية هي إحدى إشتقاقات الملكية الخاصة وصورة عنها، إن "المالك" الفكري للأشياء يخشى الآخر ويخشى معرفته أكثر، يخشاه إلى الحد الذي يدفعه إلى حجب المعرفة الحقيقية ويصدر له الميثودولوجيا "علوم القشور". لا يختلف ذلك أبداً عن موقف تاجر السلعة. ولا يختلف أبداً عن موقف البنك الدولي، ولا يختلف عن مواقف مراكز التصنيع العالمي، هذه علاقات ليست هزلية وليست متطرفة، فما الغريب في ذلك حين تمرقوانين حقوق الملكية الفكرية ضمن حزمة الإتفاقيات مع منظمة التجارة العالمية.
لقد أنجز مشروع تشاركية المعرفة تقنياً إلى حد كبير، ولكنه ما زال ميتاً حتى اللحظة إجتماعياً وسياسياً وإقتصادياً، لقد تجذرت حقوق الملكية الفكرية في الوعي كما هو حال الملكية الخاصة، وأصبحت ملكية الفكرة حقاً طبيعياً سائداً ومشاركتها "سرقة". في إحدى الأفلام السينمائية المهمة "في فور فينديتا" تعبر الشخصية الرئيسية في الفيلم عن موقفها من الملكية و السرقة "أنا لست سارقاً، السرقة هي الملكية"، وحارب الدادائيون بجنون منقطع النظير مفهوم الأصالة، فجردوا الرسام من ملكية اللوحة لأنه لا يملك ريشة الرسم، وجردوا الشاعر من ملكية القصيدة لأنه لا يملك الكلمات، وهذا المثال ليس في سياق تكسير حوافز الإبداع، بل للتحذير من مخاطر الفردانية المؤسسة على وعي الملكية الخاصة وإبنتها الملكية الفكرية.
حقوق الملكية الفردية والقوانين الناظمة لها تأتي في سياق إحكام السيطرة على المجموعات المحتاجة للمعلومة اليوم، ونحن الطرف الأضعف في هذه المنظومة ، ونحن الطرف المتعرض لهذا التهميش ونقبل بقوانينه، لا يكمن الحل في مواصلة التسول لإستكمال مشروع التطور. في هذا العالم خياران إما الإحتكار وإما المشاركة والتكامل، ولن ينجز المشروع الثاني إلا بفك الإرتباط مع الجهات المصرة على المشروع الأول "الإحتكار".

خطاب الزعيم العربي تجميل القمع والبحث عن قفاز قذر

في ربيع الثورات العربية كان ظهور الزعماء العرب على وسائل الإعلام مكثفاً بموجب ضرورة التناسق مع الحدث من جهة، وإحتواء الغضب الشعبي من جهة أخرى. تباين الخطاب على مستوى اللغة من زعيم إلى آخر، ولكن بين المحتوى والفعل على الأرض كان هناك قواسم مشتركة واضحة جداً أكدت تناسق الدور الذي تلعبه هذه الأنظمة. من المهم اليوم الوقوف على هذه المساحة الواحدة، والتي تشكل موقفاً صوب هذه الأنظمة التي تتشارك في خطابها وأدوارها الوظيفية وتبعيتها المفرطة وعدم رغبتها - وليس قدرتها -على إحداث أي تغيير أو "إصلاح".
التمثيل الإستعراضي للطبقة على شكل فئة
إتبعت الأنظمة العربية سياسيات تفريقية متعددة كانت محصلتها النهائية أن تتمثل الطبقة المظطهدة والمفقرة إستعراضياً في الدول العربية على شكل فئة، وفي المقابل يتم تشكيل الفئة "النقيضة" على أنها محببة لدى النظام ومدللة، مستعدة لإستقبال العطايا والإمتيازات على حساب الفئة الأخرى. بمعنى أن يتم مقابلة السنة للشيعة في البحرين، ومقابلة العلويين لسواهم في سوريا، ومقابلة الطرابلسيين لسواهم في ليبيا، ومقابلة قبائل محددة لسواها في اليمن، ومقابلة "الشرق أردنيين" "للفلسطينيين" في الأردن، ومقابلة الأمازيغ لسواهم في المغرب. تمكنت هذه الأنظمة ومن خلال وسائل شكلية من زرع وعي ما في ذهن "الفئة المقربة للبلاط"، ولكن دون حتى أن تقدم حلاً حقيقياً لفقرها هي ذاتها، ولكن مجموعة من المشاهد الإستثنائية تمكنت من زرع شعور الأفضلية لها من جهة، وشعور الخوف من الفئة "المتربصة" من جهة أخرى. لم يكن غريباً ذلك أبداً على هذه الأنظمة، فهي المنسحبة من دورها الإجتماعي بحدوده الدنيا، والمنسحبة من كل شيء، تبنت دور الضابط الأمني، والحكم والفصل بين الفئات المتقابلة، وقالت للفئات "المستفيدة": إن غبنا نحن ستموتون أنتم، إنه تشجيع صريح لأشكال الجوع الآمن لهذه الفئات، القبول بالجوع ووهم الأفضلية لحساب "الموت" القادم من الفئات المتربصة. مَن من الزعماء العرب لم يتحدث عن الفوضى القادمة وأخطارها، وأن مايحدث من معارضة ما هو إلا نهب للمتلكات العامة وإشعال للحرائق وتعطيل للمواقع الحيوية، إلخ...، من منهم لم يضع نفسه في موقع الوصي والخارج عن "التنوع" في النسيج الإجتماعي، مما يمنحه القدرة على إدارة النزاع. جميعهم وقفوا وقالوا "أنا الضامن الوحيد لبقاءكم، من بعدي سوف تتصارعون، وأنت أيتها الفئة المقربة،،،، ستموتين، فقفي إلى جانبي، قفي مع كل الجوع ،ومع كل الفقر قفي، فذلك سيكون أسلم كثيراً من الموت.
التعميم والغموض في سبيل التضليل
ما أكثر تلك الجمل العامة في خطابات الزعماء العرب، والمساحة المفضلة لهذا الخطاب بالتأكيد هي الحديث عن الديمقراطية والحريات العامة وقانون الإنتخاب ودورالبرلمان، لا لشيء سوى لأنها قابلة للتأويل والتشويه وتمتلك خيارات أوسع من الحديث عن دور الدولة الإقتصادي والسياسي مثلاً. الديمقراطية هي "ديكتاتورية طبقة"، تعبر عنها البرجوازية من خلال البرلمان كما عبر عنها الإقطاع سابقاً من خلال المؤسسات الدينية. حتى المقاربة الفلسفية لمسألة الحرية والديمقراطية تحتمل العديد من الآراء والأشكال، فكلاهما مرتبط بتطور وسائل الإنتاج وعلاقاته، لذلك كان تسليط الضوء على الحديث السياسي الخالص إحدى المخارج التي نظر إليها الزعماء العرب للخروج من أزمات الضغط الشعبي، وإحدى وسائل اللعب على الوقت كذلك.
تحديد شكل المعارضة و صدق القمع
وبموجب الخوف من الفوضى، يخاطب الزعماء العرب الناس بالكف عن النزول للشارع وإلتزام البيوت، يحاولون فرض شكل معارض على المجموعات المحتجة أكثر نعومة وأقل تأثيراً بالضرورة ، وتطالب إستبداله بلجان حوار وطنية " لكن ما نواجهه من مشكلات وما نسعى إليه من أهداف لن يحققه اللجوء إلى العنف، ولن تصنعه الفوضى، وإنما يحققه ويصنعه الحوار الوطني والعمل المخلص والجاد". عندما يضيق السجان ذرعاً بأسيره إما أن يحاوره وإما أن يقتله، ولكنه أبداً لن ينصفه. لا أستطيع أن أفهم ذلك الحوار بعيداً عن سياق الإمتصاص وإبر المورفين، كيف لذلك أن يكون والبلطجية على الأبواب، كيف لذلك أن يكون وعصي الأمن تلاحق المتظاهرين من مكان لآخر. وحده الزعيم الليبي معمر القذافي كان صادقاً في موقفه من الثورة في ليبيا، "سأقتلكم، وسأطاردكم أينما كنتم"، وللبقية خطاب يشعرك بأن قلوبهم معنا ولكن سيوفهم علينا.

البحث عن قفاز قذر
أجمعت الأنظمة العربية على أسلوبها في إستخدام قفاز قذر وتحميله وحده وزر المصيبة، وتحميله كل الذنوب السابقة واللاحقة، ويظهر الزعيم العربي بهيئة الممتعض والغاضب من أداء الحكومة، فيبوخها ويقدم على إقالتها، ويرحب بالحكومة البديلة، ويقدّم لها كل النصح والإرشاد كي لا تقع في أخطاء سابقتها، ولكنها للأسف دائماً تفعل! الناس هتفت في الشوارع العربية "الشعب يريد إسقاط النظام" والزعيم العربي قال "ستعمل حكومتي على مجموعة من الإصلاحات بأسرع وقت"، الشعوب العربية هتفت "إرحل، إرحل" والزعيم العربي قال "سيكون هناك حكومة أخرى ، أرجوكم إنتظروا، فالخير قادم، فلا تستعجلوا"
محاربة الفساد والتمسك بالنمط الإقتصادي الحالي
الجميع تحدث عن محاربة جدية للفساد، وسيطاردون السارقين أينما وجدوا. لقد ظهر الفساد تاريخياً مع نشوء الدولة، والأهم للشعوب العربية اليوم أن لا تغرق في تفاصيل الصفقات، أي منها أخلاقي وأي منها ليس كذلك! فالفساد صفة ملازمة لهذه المنظومة الإقتصادية التي نعيش، لقد تحولت المعركة من صراع على ملكية وسائل الإنتاج إلى صراع على ملكية الورق "النقد"، نستطيع فهم ذلك في سياق التبعية المتواصلة التي عاشتها الشعوب العربية، ولكن لا بد لنا من وعي قادم ينسف كل هذا!  
أمام الشعوب العربية طريق طويل فهي تعيش مظاهر الثورة ولم تحياها بعد، أمامها مواجهات عديدة: التمثيل الإستعراضي للطبقة على شكل فئة،  التعميم والغموض في شكل الخطاب، أكاذيب "الديمقراطية" الليبرالية على حساب العدالة الإجتماعية، القفاز القذر، المعارك الهامشية في واجهة المشهد، القمع الصريح والمستتر، قوى الشد العكسي من الحجاز إلى واشنطن. اليوم لم يعد في هذه الأنظمة ما يمكن إصلاحه، لقد تعلمنا إسقاط الأنظمة ولا بد لنا أن نتعلم كيف نبنيها.

الأمريكان والأخوان

إنشق الوسط الثقافي والسياسي عربياً في تحليل الثورات العربية في تونس ومصر واليمن والبحرين وسوريا، هل هي حقاً ثورات بما تحمل هذه الكلمة من معنى في بعدها الفلسفي "أن تحل تركيبة إقتصادية إجتماعية جديدة بديلاً عن سابقتها المنفية"؟ وهل يمكن لهذه "الثورات" أن تكون نفق العبور اللازم للوصول إلى "الثورات"؟ وهل المجتمعات العربية اليوم على جاهزية معقولة لبناء "مجتمع مدني"؟ وهل المجتمع المدني الديمقراطي يبنى على أرضية يغيب عنها التصنيع والإنتاج الحقيقي؟ وهل يعني إسقاط الأنظمة الحالية برموزها الحالية أن هناك بنية جديدة قادمة ستفكك علاقات الإنتاج القائمة وتأتي بأخرى بديلة عنها. موضوعة هذه الأسئلة والإجابة عنها مفتوحة للنقاش، ولكن في الحديث عن الإسلاميين ودورهم فيما يجري وقد يجري، لا بد من الوقوف عند الأسئلة أعلاه.
إن الإستخفاف بدور الإسلاميين في هذه المرحلة يعد تجاهلاً لموروث ثقافي جمعي عربي، أسهمت في بناءه مجموعة من العوامل كانت إحداها الأنظمة التي تثور عليها الشعوب العربية اليوم.ولذلك من المهم الوقوف عند هذا الخيارو تحليله جيداً، ودراسة موقعه في مرحلة ما بعد الهدم الواجب إستكماله:
·       هل مجيء الإسلاميين لتسلم زمام السلطة يعني "ثورة" في بعدها الفلسفي سابق الذكر؟
·    مما لا يخفى على أحد أن مأساة الشعوب العربية أنها لم تستكمل تحررها، فقد إتجهت من حقبة الإستعمار المباشر، إلى حقبة أكثر خطورة يتداخل فيها الإستلاب الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والإستعمار الداخلي، ودون فك الإرتباط مع المراكز المعنية بتكريس التخلف، لن تقوم لنا قائمة!فهل مجيء الإسلاميين قادر وراغب في إستكمال هذا التحرر وتحت هذا العنوان "إستكمال مشروع التحرر"؟
·       هل هناك تناقض بين الأمريكان والإخوان، مما يجعل قدوم الإسلاميين أمراً صعباً؟
·هل الإسلاميين اليوم بحاجة إلى ثوب جديد، يتناسق مع الفيسبوك وتويتر وحوارات الإنترنت و "الحرية"و"الديمقراطية"، هل الإسلاميين بحاجة إلى ثوب أردوغاني؟
إن الملاحظة الدقيقة لخط سير الإسلاميين عربياً، تقدم إستنتاجاً مفاده أن الإسلاميين لم ولن يمثلوا "ثورة"، فقدومهم لإعتلاء السلطة السياسية عربياً، لن يجلب أي تغيير للواقع الإقتصادي بالدرجة الأولى، بمعنى أنهم لم يقدموا طوال السنوات الماضية أي برنامج بديل على هذا المستوى، وكان العنصر الأساسي في أدوات التحفيز للناس يستند إلى الدين بما يمثل من موروث إجتماعي، وهذا الإستناد فتح الباب لتمرير الفرق بين المرابحة و القروض "الربوية" في باقي المؤسسات المالية التي لا يعتليها "لوغو" إسلامي على واجهاتها. ولذلك فإن البديل الإسلامي، إن جاء، سيستند على تغييرات قشرية في الجانب الإجتماعي، تحدث الناس عنها طويلاً، ومنهم من إنتظرها طويلاً، والكثير منهم، في حال حدوثها، لن يحتملها طويلاً.
وفيما يتعلق بموقف الأمريكان من الإسلاميين، فلا بد هنا من التنويه أن أمريكا تنظر إلى المسألة بجانب مصلحي بحت، بمعنى أن الحفاظ على الإستثمارات، ومنطق السوق "الحر"لصالحها هو الأهم، وطالما أن البديل لا يملك بديلاً، وغير راغب بتكوينه في هذا الخصوص "الشأن الإقتصادي"، فلن يكون مرفوضاً أمريكياً.الفوضى الخلاقة والبحث عن الإستقرار وجهان لعملة واحدة في المشروع الأمريكي، فهي بحاجة لهذا في وقت ومكان ما ولذاك في وقت ومكان آخر. فإن كانت الفوضى هي المطلوبة في مكان ما، سيؤتى بالإرهاب إلى واجهة المشهد، وإن كان الإستقرار هو المطلوب في مكان آخر، يؤتى بقوى "التنوير"، المستحوذة على رضا جماهيري معقول. المهم هو المصالح الإقتصادية، والإستقرار والفوضى "إقتصاد الكوارث" هي معايير متبدلة تستخدم بالتناسق مع الحاجة. الإسلاميين في هذا السياق يشكلون خياراً وارداً و خطراً كبيراً على أي ثورة حقيقية، فمعنى مجيئهم هو مواصلة طريق الخضوع ولكن هذه المرة بثوب جديد "مقدس"!
أردوغان لم يجرؤ على المساس بمبادئ العلمانية في تركيا، والحركات الإسلامية في الوطن العربي حاولت التعبير عن نفسها أنها "ديمقراطية"و"حديثة"في مشاركتها في الإحتجاجات.أمريكا اليوم بحاجة إلى وكيل ملائم، والحركات الإسلامية مستعدة لقبول الدعوة، وبدأت تتعلم كيفية إرتداء ثوب أردوغان بظروف ومعايير مختلفة عنها في تركيا.الأخوان المسلمون من أكثر الحركات براغماتية ، وتسلمهم زمام السلطة يعني إجهاض لمشروع لم يبتدئ بعد وجولة جديدة من الصراع قد تكون الأصعب لأنها بإختصار أبعد ما تكون عن الديمقراطية. على الشعوب العربية أن تقف جيداً وتفكر في بديل لا بديل عنده عن تفيكيك علاقات الإنتاج الحالية وفك الإرتباط التبعي مع المراكز، فتلك هي الثورة بما تحمل من معنى فلسفي.
في ظل إحتجاجات الشعوب العربية طغى المنطق الصوري ذو البعدين على أذهان العديد من المثقفين والعموم، حالة تشبه إلى حد كبير المنطق الرقمي ( إما أن تكون النتيجة 0 أو 1)، فمن ينتقد طائفية أو إقليمية أو دينية أوعشائرية خطاب ثورة ما، يصبح أوتوماتيكياً مدافعاً عن النظام القائم، ومن يدين القمع الذي تمارسه الأنظمة العربية في ردها على الثورات ينتمي أوتوماتيكياً للفئة التي تتصدر مشهد الثورة. إن الدماء التي سالت في سبيل إسقاط هذه الأنظمة تستحق أن يكون البديل حقيقياً، وتستحق أن لا تعاني الشعوب العربية مرحلة جديدة من القمع والتهميش. إن جرس الإنذار لإبتداء مرحلة الهدم لم تقرعه لا أمريكا ولا الأخوان، ولكنهما حاضران بقوة لتحديد خيارات الشعوب في المرحلة التي تليها، ولكي تؤتي الثورات أكلها هناك ثلاثة أطراف لا بد من تهميشها عن خيارات المستقبل: النظام والأخوان والأمريكان.

متاهة الدولة المدنية

شكل شعار "الدولة المدنية" عنواناً أساسياً في الإحتجاجات الشعبية العربية، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن مفهوم المجتمع المدني مر بمراحل تاريخية متعددة، وكان التعبير عنه والقصدية به تختلف فلسفياً وعملياً من وقت إلى آخر.لقد تطور هذا المفهوم تاريخياً، وحمل معان كثيرة إلى الحد الذي بات معه مطاطاً وواسعاً فوجب حصره في حدود التجربة نفسها كي تصبح هناك إمكانية لتحديد موقف منه! .  قبل الوقوف مع أو ضد لا بد من تشريح المفهوم والإدراك العميق لمعناه، معناه اليوم في سياق هذه الإحتجاجات، وعلاقة هذا المعنى بالحركة وأهدافها.
في تعريف توماس هوبز للمجتمع المدني إعتبر الملكية المطلقة أفضل أشكال الدولة، في ظل إضطرابات كبيرة في إنجلترا في سياق التجربة الأوروبية الأولى في الثورة على الحكم المطلق في القرن السابع عشر! ولكنه كان قد وصف الدولة في كتابه التنين "لويثان" وكأنها وحش بري يلتهم الحقوق المدنية،  ومع ذلك فإنه في نهاية المطاف أخذ الموقف المؤيد للملكية المطلقة على أنها بديل أفضل للطبيعة التي تميز بها البشر من الظلم والصراع.
إستطرد جون لوك في المفهوم في مؤلفه "الحكومة المدنية "، فقد تناول علاقة الرجل بالمرأة وبأطفالهما وقارن هذه العلاقة مع تلك الشبيهة عند الحيوانات ومع تلك التي تربط الحاكم بالشعب، وحلل علاقة السيد بالعبد على أنها علاقة سلطة مؤقتة ومقبولة.
في رأيه كان لا يمكن لأي مجتمع سياسي أن يقوم إلا بالمحافظة على الملكيات الخاصة ومعاقبة المعتدين عليها، وكيفية هذه المحاقظة تكون من خلال أشخاص معينين توكل إليهم هذه المهمة، وبهذا ينقل الإنسان حقه الطبيعي إلى المجموعة، وينقل سلطته التنفيذية "الطبيعية" إلى هذه الهيئة، ومن هنا تظهر أصول السلطات التنفيذية والقضائية وفصلها،...إلخ. وكان يرى أنه إذا إجتمعت مجموعة من الأفراد دون أن تكون هناك سلطة عليا يلجأون إليها في مشاكلهم فإن مجتمعهم يفقد بذلك دعامته الأساسية ويظل الناس على حالتهم "الطبيعية"
ولكن جون لوك في نهاية المطاف خالف هوبز في أفضلية الحكم المطلق فقد رأى فيه حصر للسلطة قي يد عدد قليل من الأفراد، الأمر الذي يناقض أساسيات المجتمع المدني في عدم الإنحياز لفئة محددة، وإعتبر أن الهدف الأساسي من المجتمع المدني المجيء بسلطة عليا تدافع عن الإنسان بدلاً أن يدافع هو عن نفسه بمنطقه "الطبيعي".
نظر آدم سميث إلى المجتمع المدني على أنه مجتمع المبادلات التجارية الحرة الذي يقوم فيه الجميع بنشاطهم التجاري دون قيود، الدولة فيه المراقب والحارس للمصالح الخاصة. ونظر هيجل إلى المجتمع المدني على أنه أسرة كبيرة تحكمها فلسفة الحق والأخلاق.
وللمجتمع المدني تعريف في الطبعة الليبرالية: مؤسسات "غير حكومية" تتبنى برامج "تطوير إجتماعية"، وتصدر تقارير أحياناً عن مستوى عمل الحكومات، وجمعيات تطوعية، ونوادي رياضية، وجماعات الرفق بالحيوان، وضيوف أجانب "حزينين" على مستوى المعيشة في العالم الثالث، وجمعيات حقوق إنسان، ومؤسسات لتعليم أساليب بناء المشاريع الخاصة، وهيئات تربوية لصياغة المناهج بطريقة "حديثة".
أمام "المجتمع المدني" العربي تساؤلات ضخمة كثيرة: هل نرضى بتنين هوبز لأننا سنعود إلى "طبيعة" البشر الأولى في الصراع إن قررنا هدم الحكم المطلق؟ هل يمكن لنا أن نكون "مدنيين" دون أن نكون مصنعين؟ هل أي نظام قادم والتصنيع غير مجدول في أجندته هو نظام مدني؟ هل نحن بحاجة إلى مدنية السلطة أم مدنية المجتمع "لا طوائف ولا أقاليم ولا عشائر،..."؟ هل يمكن "لمدنية" السلطة و"مدنية" المجتمع أن يفترقا؟ هل نريد سلطة "مدنية" على حدود إسرائيل إذا كانت المدنية هي نقيض العسكرتاريا؟ هل المجتمع المدني هو مجتمع المبادلات التجارية الحرة أم مجتمع العدالة الإجتماعية والتوزيع العادل للثروة ومجتمع الضمانات الإجتماعية؟ هل المدنية هي الديمقراطية بزبدها وجوهرها وإن جلبت خياراً يقتلها ذاتها؟
لا بد لنا أن نتوقف عند المفاهيم الرائجة ونفهم معناها، فبلا تحديد وظائف الأشياء قد نضيع فرصاً تاريخية كثيرة. الأثيوبيون وعدوا سابقاً بمجتمع مدني يخلصهم من "الديكتاتور" مانجستو، العديد منهم اليوم يلقب منجستو....."محمد".

الخميس، 11 أغسطس 2011

مجتمع الإستعراض

مجموعة منوعة من السلع تغزو العالم بمولاته وأسواقه مشكلة دوامة من الأشياء يقف المستهلكين في قلبها،ولا يملكون سوى سلطة الإختيار الخارجية وسلطة تحديد القيمة، ويعبر المجتمع عن نفسه أنه"مجتمع الوفرة"القادر على إشباع كل الإحتياجات وقادر على تلبية كل الرغبات ، ويتعرض الناس لقصف مستمر من الصور ليصبح الواقع شيئاً مستعملاً تحت سلطة التسويق الزائفة، وينكسر سحر واجهات المتاجر وتنكشف الأشياء على ما هي عليه فعلاً في علاقتها بالتملك الذاتي، فما يتم تملكه يفقد القيمة الغرائبية التي كان يتحلى بها ويظهر التفكير في وظائف الأشياء بعد الإستعمالات الأولى، ويتحول الإستعمال بحد ذاته أيضاً إلى سلعة تستهلك.لم يكن غريباً في مظاهرات ضريبة الرأس في لندن الهجوم على أغلى المتاجر، وعلى ألمع لافتات الدعاية وعلى أفخر السيارات، فقد ذلك هجوماً مقصوداً على مظاهر الإستعراض والإستهلاك الصارخ.
 لم يكتف النظام في توسيط السلع في علاقات الناس بل تجاوز ذلك إلى أن تتملك السلعة البشرية بأكملها، فما يحاول الناس أن يتملكوه اليوم قد تملكهم، وبات صاحب السيارة مملوكاً لها، وصاحب الثوب الأنيق مملوكاً له، وصاحب الحذاء الجديد، وصاحب الهاتف الذكي، وصاحب النظارات الواقية من الشمس، وصاحب آخر صورة في وضعية مختلفة على الفيس بوك، وصاحب المقال المختلف.......
  وتمتد العلاقات السلعية لتشمل كل جوانب الحياة وصولاً حتى إلى المسرح و الفكر والثقافة، تصبح المعلومة تباع وتشترى وتروج وتعرض وتستهلك كالخبز تماماً، وتفرد الصحافة أخبارها كالسلع وفقاً للمزاج العام ووفقاً لإحتمالات إنتشار الخبر، "إعتصام هذه الفئة من العمال بات خبراً عادياً ومستهلكاً ولا داعي من نشره"، "لقد نشرنا شيئاً مشابهاً في الماضي القريب وبات الخبر مستهلكاً".وتتحالف صيغة الإستعراض ومنظومة إحتكار المعرفة لغايات "التطور" الفردي، فإحتكار المعلومة في الصحافة هو الرديف المباشر لإحتكار المعرفة في المؤسسات التجارية الكبرى، والملكية هي العنوان الأساسي لهما.
ويتم تقسيم الزمن إلى وحدات قابلة للبيع:وقت تناول الشاي، وقت النزهة، وقت الراحة الأسبوعية، وقت العلاقات الإجتماعية، ويعبر النظام عن نفسه وزمنه بإقتران خطي ثابت، وتصبح الجغرافيا وكذلك التاريخ وحدات إضافية للبيع والشراء، وتنتشر المؤسسات السياحية لبيعها، ليتمكن الناس من شراء أماكن تصلح للنظر إليها ولا تصلح للعيش فيها، "من هنا مر جنكيز خان، وهنا نصب الرومان قلاعهم، وهنا كانت أول الصواريخ التي سقطت على بغداد، وهنا كانت تعتقل إسرائيل مناضلي الجنوب"
ولل"النجوم" حصة كبيرة  في مجتمع الإستعراض، الذين لهم غراميات، وفضائح، ومغامرات لا بد من الإطلاع عليها، فإذا نسي المرء فينا الحياة فإن بإستطاعته أن يتماهى مع مجال كامل من الصور، له أن يكون أفضل لاعب كرة قدم بالنظر إلى ميسي، وله أن يكون "المع" المعارضين بطبع صور جيفارا   و نسج واقع من الخيال يعيش فيه ويتمرد فيه ويحيا صورة الثائر الذي يريد هناك، وله أن يكون "ألمع" الكتاب الساخرين بالنظر إلى برنارد شو، وله أن يكون "أنبغ" الفلاسفة بالنظر إلى ماركس وهيوم وفوكو....، وله أن يكون "أروع"الشعراء بالنظر إلى المتنبي، والقائمة تطول.في مجتمع الإستعراض الشخصية المشهورة هي التمثيل الإستعراضي للإنسان الحي ونقيض الفرد الذي تتغنى الرأسمالية بالحفاظ عليه! المشهورون هم مواطنون "نموذجيون" يعوضون عجز مشاهديهم عن أن يخبروا التجرية الحقيقية بالفعل أو بمعنى آخر في الواقع. سوف تحل الصور النمطية للنجم والفقير والشيوعي والقاتل من أجل الحب والمواطن الملتزم بالقانون والمتمرد والبرجوازي والرياضي والشاعر محل الإنسان واضعة في مكانه نسقاً من التصنيفات المتعددة النسخ، نسخٌ إستعراضية غير حقيقية، والحقيقي مكبوت، وفي إنفصال كامل عن الواقع."نحب أن يقال لنا من نحن حقاً لأن إستلابنا يجعلنا عاجزين عن التقرير لأنفسنا : من نحن؟؟؟"
يقف الناس اليوم متفرجين على أنفسهم فيما يفعلون، تلاصقهم المرآة أينما ذهبوا والكاميرا كذلك، تغويهم التمثيلات الخارجية لما قد يكون وليس بكائن! تقيدهم سلطة الصورة وتمنعهم من العيش في الواقع الحقيقي وبالتالي صنعه.
الإستعراض هو رديف التسليع وهوكذلك منظومة إقتصادية إجتماعية شاملة، مجتمع يتفاخر بقدرته على العرض، وجمهور بات مستعداً للإستهلاك وإنتاج المزيد من السلع الإجتماعية الإستعراضية التي تزيد من عمر الإستلاب وتحول الحياة إلى أساليب إستعراضية يستحيل معها أن يحيا المرء في الواقع، وتسحق فيه رغباته الحقيقية لصالح تلك الخارجية والغريبة.
لقد إبتدأ هذا النظام بالقسر والقهر والدم، واليوم ، في كثير من الأحيان، هو ليس بحاجة إلا للخداع وصور تحرس الواقع!