الجمعة، 9 ديسمبر 2011

الحرب الثقافية الباردة: البارحة وكذلك اليوم

بعد معركة بيرل هاربر بدأت أمريكا تبحث عن خيار يحمي مصالحها، ويدرس الأخطار قبل وقوعها "Risk_management"، وعلى كل حال، كم هو شبيه منطق عمل الشركات العالمية الكبرى بذلك النشاط السياسي، نعم إنها إدارة المخاطر "Risk_Management" التي يسمع بها عاملو القطاع الخاص ربما في كل مكان: الشركات التكنولوجية، البنوك، مؤسسات التمويل، شركات العمارة،...إلخ.
بعد هذه المعركة، إستدعت الولايات المتحدة الأمريكية العديد من أبناء الطبقة "الأرستقراطية"، لتلعب دوراً جديداً، يختلف في مضمونه عن عمل الجستابو الألماني واللجان السرية الأمريكية في زمن الحرب العالمية الثانية. هذه المرة الهدف هو الهجوم على ثقافة الشعوب ومحاولة تسيير الوعي الجمعي ليقبل الرأسمالية ويرفض الشيوعية، ومن ذلك ما يلي:
·       أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1948 برنامج النقطة الرابعة، وأهدافه المعلنة كالتالي:
§       التأييد المطلق للأمم المتحدة.
§       كسب الشعوب بالعمل على الإصلاح الإقتصادي.
§       تقوية الأمم التي تعادي الكتلة الشبوعية.
§       تقديم المعونات لتحسين أحوال مختلف بلدان العالم.
وكان هذا الإقتراح يصب في خانة " يد تقدم الخبز ويد تقدم ثقافة دولة الخبز"
· في الوقت الذي إفتتح فيه السوفييت بيتاً للثقافة في برلين سارعت أمريكا لعمل عروض سينمائية وموسيقية حتى من فرق زنجية لدحض فكرة التمييز ضد الزنوج في أمريكا.
·في عام 1947قرر الكومينفورم السوفيتي من باب محاولة التأثير في الرأي العام الأمريكي عمل فعالية ثقافية في نيويورك، وكانت ردة الفعل الأمريكية هي الزج بشيوعيين "تائبين" وملاحقة الوجوه المشهورة مثل شارلي شابلن و مارلون براندو. وعلى كل حال، في الثورة الفرنسية كان المشتبه بهم يساقوا إلى المقصلة، أما في أمريكا فإن كل من كان يشك في شيوعيته تتم محاصرته إلى الحد الذي يفكر معه في الإنتحار.الولايات المتحدة التي لم توقف تنظيرها أبداً فيما يتعلق بحقوق الأفراد، فإنها أكثر من مارس محاربة هذه الحقوق، ومن ذلك مطاردة مكتب التحقيقات الفيدرالية للروائي العالمي آرنست همنجوي، الذي أصيب بحالة إكتئاب ألزمته الذهاب إلى الطبيب النفسي والذي إتصل بدوره بمكتب التحقيقات الفيدرالية لإخبارهم بأمر مراجعة همنجوي!!
·منع عرض "يوليوس قيصر"  و"الجثة الحية" في نيويورك.
وحتى لا يكون هذا التوصيف خالياً من مقاربات الواقع، لنأخذ مؤسسة فورد على سبيل المثال، إذا قمت بزيارة موقع هذه المؤسسة ستجد زوايا عديدة لعمل هذه المؤسسة على الصعيدين السياسي والإجتماعي:
§       العمل على زيادة المشاركة في الإنتخابات.
§       العمل على إنتاج حكومات شفافة وفعالة.
§       دعم المجتمع المدني.
§       بناء الأمان الإقتصادي طيلة العمر.
§       تطوير عملية دخول الجامعات.
§       حرية التعبير.
§       دعم حقوق الإنسان.
§       دعم حقوق المرأة.
لنلقي نظرة بسيطة على معطيات هذه المؤسسة، لنقوم بعد ذلك لمقاربة الفلسفي والواقعي:
§ مؤسسة خاصة مقرها الرئيسي في نيويورك، تأسست على يد هنري وإدسل فورد عام 1936.
§ أصول هذه المؤسسة تبلغ 13.7 بليون دولار.
§إستثمرت هذه المؤسسة في الحرب العالمية الثانية على أن يأتي المردود لاحقاً وعلى شكل مشاريع طويلة الأمد.
§ كانت هذه المؤسسة من الجهات الحاضرة والمشاركة بقوة في مشروع مارشال.
§أدت لقاءاتبيسيل، رئيس مؤسسة فورد عام 1952، مع دولز، رئيس جهاز الإستخبارات الأمريكية، إلى أن يصبح الأول مستشاراً خاصاً للثاني عام 1954.
§دعمت فورد إصدار العديد من المجلات في أوروبا، وحسب بيسيل، لم يكن الهدف هو هزيمة اليساريين نظرياً فيما يتعلق بالجدل، بل كان جذب أكبر عدد ممكن منهم لتغيير مواقفهم.
§رئيس فورد عام1954عمل سابقاً سكرتيراً عاماً لشؤوون الحرب،ومستثمراً كبيراً في ألمانيا الغربية، ومحامياً لشركات النفط الكبرى في وول ستريت، وفي عهده تم تخصيص وحدة في المؤسسة للتواصل مع وكالة الإستخبارات.
هنا لا بد من الإنتباه للملاحظات التالية:
§مؤسسة فورد وتلك الشبيهة بها هي الغطاء الأنسب لوكالة الإستخبارات الأمريكية للتأثير على الشباب ونقابات العمال والجامعات ودور النشر وكل المؤسسات التي قد تلعب دوراً نهضوياً وعلمياً حقيقياً.
§لقد كانت فورد ومازالت في طليعة جيش الحرب الثقافية الباردة، ولا مكان لأنصاف المواقف مع مثل هذه المؤسسات، كأن يقال من الممكن محاربتها في المؤسسات المدنية ولكن ليس في الأهلية!
§لا يمكن النظر لفورد وسواها على أنها مؤسسات خاصة غير حكومية وتنتقد السياسة الأمريكية، فلذلك ليس من الخطأ التعامل معها!
هذه معركة إقتصادية وإجتماعية وثقافية مفتوحة بالكامل لمواجهة الإمبريالية بمختلف أدواتها...


السبت، 3 ديسمبر 2011

الغزو الثقافي لدول الأطراف

شهدت دول العالم الثالث ظاهرة المنظمات غير الحكومية الممولة من جهات أميركية وأوروبية "تحديداً في مجال حقوق
 الإنسان"، ويأتي هذا في سياق تجزئة الصراع الأساسي إلى صراعات عديدة، يعتبر كل منها مشكلة قائمة بذاتها يعمل على حلها مجموعة من الإختصاصيين، ولها مجموعة من المنظمات الخاصة بها، فتتشكل هيئات ضد الإستغلال الجنسي في العراق، وهيئات لإعادة الإعمار في العراق، وهيئات ضد تجاوزات مبادئ حقوق الإنسان في السجون وتطالب بسجون نظيفة حسنة المعاملة، وهيئات لإشراك المرأة بشكل أكبر في العمل، وهيئات تعمل على إشراك سكان المناطق الريفية والقروية بآخرين يأتون من أوروبا ومن أميركا بحجة العمل على "تطوير"سكان تلك المناطق، وهيئات للإشراف على "نزاهة"مختلف الإنتخابات، وهيئات خيرية لمساعدة الفقراء والإحسان إليهم، وهيئات تعلن الإلتزام بدمقرطة الوطن العربي،   وهيئات تتحدث في الجندر، وهيئات تعلم آليات بناء المشروع الخاص، وهيئات تبحث في نسب الجريمة والسرقة وتبحث في أسبابها "الأخلاقية".
أصبحت هذه المنظمات ممولاً أساسياً للعديد من المنظمات المحلية، وشمل ذلك العديد من الفئات السياسية التي كانت تتحرك بمنطق مختلف تماماً، حتى اليساريين الكلاسيكيين والمتطرفين، إنزلق العديد منهم في هذه التجارب، منهم من ركض خلف أشكال المنفعة الشخصية الخاصة بها، ومنهم من إقتنع بأوهام نجاح هذا المشروع، وحاول تبرير تبنيه على أنه خلاص الطبقة العاملة.
في كتاب "من يدفع للزمار، الحرب الثقافية الباردة" ل "فرانس ستونر سوندرز": "بدأت وكالة المخابرات المركزية منذ عام 1947 في بناء إتحاد له واجب مزدوج وهو تحصين العالم ضد الشيوعية وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الخارجية الأميركية، وكان من ذلك أن تشكلت لجنة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع الوكالة للترويج لفكرة مؤداها أن العالم في حاجة إلى "سلام أمريكي"، إلى عصر تنوير جديد وأن ذلك سوف يسمى "القرن الأمريكي".
نشرت صحيفة ترود الروسية وثيقة تحت عنوان "ظل بريجينيسكي"أن الولايات المتحدة وألمانيا ودولاً غربية أخرى زرعت في أوكرانيا 399 منظمة دولية و421 منظمة خيرية و179 منظمة غير حكومية لدعم فيكتور بوشينكو "قائد الثورة البرتقالية في أوكرانيا وحليف الغرب"، وتبين الوثيقة أتعاب هذه المنظمات أنها تتراوح بين 300 ألف و500 ألف دولار في الأسبوع الواحد.
كان الهدف من وراء ذلك هو العمل على إضعاف المجال الإقتصادي الحيوي بين روسيا وأوكرانيا، لأن الوحدة الإقتصادية بين هاتين الدولتين تهدد بالضرروة المشروع الرأسمالي بخطر ممكن وعودة نموذج الإتحاد السوفياتي.
ولقد عملت المنظمات غير الحكومية كذلك على ترويج مجموعة من المفاهيم والمصطلحات "المشاركة"، "التمكين"، "التنمية السياسية"، وكذلك "المجتمع المدني".
"ولد نموذج جديد أو عادت ولادته في العقود القريبة وهو المجتمع المدني، في السابق كان من يهمه المجتمع المدني يفترض أن يكون مؤرخاً مهتماً بلوك أو هيجل، ولكن المصطلح نفسه لم يكن له صدى معاش أو إثارة. بل كان يبدو مغطى بالتراب، أما الآن وفجأة إستخرج وأزيل عنه التراب وأصبح رمزاً براقاً" آرنست جيلنر.
"إن نجونت "NGO-IZATION" السياسة تهدد بتحويل المقاومة إلى عمل مهذب من الساعة 9 حتى الساعة 5 ومدفوع الأجر بالإضافة إلى مزايا أخرى، أما المقاومة الحقيقية فلها عواقب ملموسة كما أن ليس لها مرتباً"  أرانداتي روي.

هناك العديد من الملاحظات لا بد من الإنتباه إليها في عمل المنظمات غير الحكومية والمروجة لمفاهيم الليبيرالية الجديدة:
·       إن عمل هذه المنظمات وبمنهج تسليع النشاط السياسي يؤدي في نهاية المطاف إلى تحويل المقاومة إلى عمل مفاوض ناعم غير ضاغط، وكأن الفقير والغني، الناهب والمستلب، طرفان يود كل منهما الآخر ويرغب في مساعدته!
·       إن هذه المنظمات تعمل على تجزئة المشاكل الناجمة عن النظام الرأسمالي أساساً، وتعطيها صيغ حل لا تتناسق مع أسباب المشكلة الأساسية.
·       إن كان المقصود بالمجتمع المدني هو حالة الطلاق بين الدولة والدين، فإننا شاهدنا جميعاً الحملة التي أطلقها جورج بوش، البرنامج المعتمد عيى الإيمان، فبات غزو العراق "رؤيا"، والحرب على أفغانستان "وحي".
·       إن كان المقصود بالمجتمع المدني هو الطلاق بين المجتمع والدولة، وإرتباطه بقطاع الأعمال قتلك مصيبة كبيرة جداً، فما تحتاجه شعوب الأطراف اليوم هو الدولة التي حرمت حقها في بناءها بموجب الفجوة التي نشأت علمياً وصناعياً بينها وبين دول الغرب.
·       إن وصفة المجتمع المدني هي وصفة المراكز للأطراف لغايات الإستلاب، يشير الهندي سانجاي كومار إلى أن أدنى المجموعات في نظام الطوابق في الهند حصلت على حقوق دستورية قبل إقرار "البرنامج الإيجابي" للزنوج في أميركا، وللآن حسب كومار من كل 3 سود في أميركا يقع واحد في قبضة النظام الجنائي. من ضمن ما نشرته صحيفة الواشنطن تايمز " أن المنظمات الفلسطينية ترفض المعونة الأمريكية عام 2004 وتمتنع عن التوقيع على تعهد بألا تستخدم الأموال لمساندة الإرهاب، وكما جاء على لسان بورتا بالمر من وكالة التنمية الدولية الأمريكية، فإن هذا ما يطبق عالمياً وليس على الفلسطينيين فقط". قبيل إنقضاض الناتو على يوغسلافيا عام  1999، عملت ال سي آي إيه على إنجاز وثيقة "الترويج للديمقراطية في يوغسلافيا"، بهدف إسقاط النظام هناك وإستبداله بنظام آخر عميل.
 

الخميس، 1 ديسمبر 2011

ندوة منتدى الفكر الإشتراكي: ثورة أكتوبر والثورات العربية

البند الأول: ما هي الثورة؟
الحركة العميقة الواسعة لجماهير الشعب والتي يتم أثناءها القضاء على تناقضات أساسية في المجتمع عن طريق إزاحة الطبقات القديمة عن السلطة وإنتقال هذه السلطة إلى الطبقات الجديدة. إنه إحلال لتشكيلة إقتصادية إجتماعية جديدة تنفي سابقتها، وتتبوأ موقعاً تتمكن من خلاله التأثير على العقل الجمعي بأدوات على الأغلب تكون جديدة.
بهذا يمكننا التمييز بين الثورة والتمرد أو الإنتفاضة أو الإنقلابات أو الإصلاحات، فتغيير المسميات الذي قد يكون ناجماً عن مؤامرات داخل الطبقات المستولية على السلطة، أو إنقسامات إجتماعية باحثة عن الإستيلاء على السلطة مع الحفاظ على نظام الحركة أو تفنيط للمسميات وفقاً للمصالح، لا تعبر أياً منها عن  تغيير ثوري ولا تغيير جذري للنظام.
وبالتالي فإن دعم هذا التحرك أو ذاك تعتمد أساساً على مدى إقتراب التحرك نفسه من مفهوم الثورة ذاتها، ولذلك لا تتوقف هذه المقاربة عند شكل التحرك "سلمي أو عنفي" ولا عند عدد الضحايا، وإنما على صيرورة هذا التحرك ليحل الجديد بديلاً عن القديم  في نهاية المطاف.
وهذا لا ينطبق فقط على ثورة عمالية تواجه الرأسمالية مثلاً، فمجيء البرجوازية بديلاً عن الإقطاع في أوروبا يعد ثورة، تشكيلة إجتماعية إقتصادية جديدة تحل بديلاً عن سابقتها، وتعتمد على مؤسسات جديدة في إدارة المجموع البشري فكما كانت الكنيسة هي الأداة الأساسية للإقطاع، كان البرلمان بالنسبة للبرجوازية، وبقدر ماتتمكن الطبقات الثائرة من تأسيس مؤسساتها الخاصة بقدر ما إقتربت أكثر من إستلام السلطة في الواقع، وهذه ما جرى عن تأسيس برلمان خاص في فرنسا للقضاء على الإقطاع على النقيض من التجربة البريطتنية في الصراع مع الحكم المطلق،  وتأسيس مجالس السوفياتات في روسيا.
إذن الثورة في التعريف العام هي إزاحة ونفي لتشكيلة إقتصادية إجتماعية تترأسها طبقة ما من خلال مجموعة من المؤسسات، ليحل بديلاً عنها تشكيلة إقتصادية إجتماعية أخرى تترأسها طبقة جديدة، وتمتلك القرار في إنشاء مؤسساتها الخاصة.

ثورة أكتوبر في سياق التعريف المطروح
فلنأخذ ثورة أكتوبر كمثال يوضع لمقاربة التعريف المذكور، ففي الجانب الإجتماعي أوردت العديد من المصادر عن نسب أمية عالية في المجتمع الروسي وخاصة بين الطاجيك والقرغيز والأوزبك، تراجعت هذه النسب إلى حدود كبيرة في ظل النظام الجديد. فكان ما ينفق من قبل وزارة التنوير الشعبي، التي سماها لينين وزارة التعتيم الشعبي، كان ينفق على العلم والثقافة نسبة بسيطة جداً مقارنة مع ما ينفق على السجون.
ولقد تطور هذا الجانب الإجتماعي على مدار العقود اللاحقة ليصبح حالاً واقعاً، ففي دراسات الهندي بيجو كومار "الإنسان الجديد في الإتحاد السوفياتي" الذي أمضى فترة طويلة في الإتحاد السوفياتي، تحدث عن دور الحضانة، على سبيل المثال، الطفل الروسي الذي ينادي "أعطني لعبتنا" والطفل الإنجليزي الذي ينادي "أعطني لعبتي"!
وفي الجانب الإقتصادي تمكنت ثورة أكتوبر من النهوض بروسيا صناعياً، كانت روسيا في العهد القيصري تعتبر من البلدان المتوسطة في هذا المجال إلا أنها تمكنت لاحقاً من إحتلال موقع متقدم جداً.
والأهم من التقدم الصناعي هو التغيير الحاصل في أنماط الإنتاج وعلاقاته، فقد كان الشعار الأساسي للثورة هو الإشتراكية، بينما كانت العناصر الأساسية للإقتصاد الروسي هي:
v   الإقتصاد الفلاحي الطبيعي
v   الإقتصاد البضاعي الصغير "الذي يضم الفلاحين البائعين للحبوب على سبيل المثال"
v   الرأسمالية الخاصة.
كان التوجه العام للينين هو التحالف بين العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة المترددة "مجموعة من الحرفيين والتجار الصغار والفلاحين الصغار"، للإستيلاء على السلطة السياسية ومن ثم القيام بالمهمات البرجوازية وعلى رأسها التصنيع.
لقد عبر لينين في أكتوبر عن إنتقال إقتصادي من الدولة الرأسمالية الخاصة إلى رأسمالية الدولة ومن ثم إلى الإشتراكية. وقد تعرض لينين إلى نقد داخلي حاد في هذا السياق "رأسمالية الدولة في مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية" وقد كان هذا المشروع يتحدث عن تشكيل مجالس لمختلف القطاعات الإقتصادية تتشكل أغلبيتها من العمال وتستفيد من خبرة البرجوازية الصغيرة والتجار الصغار في الجرد والتنظيم.
إذن عبرت ثورة أكتوبر عن شكل من أشكال الإنتقال للإقتصاد الروسي المتشكل من العناصر الثلاثة سابقة الذكر إلى رأسمالية الدولة كعتبة إنتقال إلى الإشتراكية لاحقاً.
وفي الجانب السياسي "وهو أداة تنفيذ الرؤى الإقتصادية والإجتماعية"  فقد كانت المهمة الأساسية هي إخضاع فوضى البرجوازية الصغيرة للرقابة والجرد من جانب الدولة السوفياتية من خلال مؤسسات تتشكل أغلبيتها من العمال. وتم التعبير عن رأسمالية الدولة أنها الرأسمالية التي سمحت بها السلطة البروليتارية في حدود معينة لخدمة التنظيم الإشتراكي الجديد، ومن الأمثلة على ذلك هو تأييد لينين لإتفاق نقابة عمال الجنود مع أصحاب العمل على إدارة المؤسسات الصناعية في هذا القطاع من خلال اللجنة الرئيسية واللجان المناطقية والتي يمثل العمال فيها جميعا نسبة الثلثين مقابل ثلث واحد لأصحاب العمل.
المهم هنا أن الناتج العياني لثورة أكتوبر هو الظهور بطبقة جديدة تسلمت السلطة السياسية التي ستصوغ بدورها الإقتصادي والإجتماعي على حد سواء، وقد قامت هذه الثورة بالأساس على تحالف العمال والفلاحين دون إنقسامات ثانوية أثرت على شكل الصراع الطبقي.
ما هي الثورة المضادة؟
هي محاولة إعادة البلاد إلى دولة ما قبل الثورة "دينيكين في روسيا إبان ثورة أكتوبر"، أو هي معارضة إستكمال مشروع الثورة "ضمن التعريف المطروح" "الدور الخليجي اليوم في البحرين ومصر" أو هي تمرير مشروع لإسقاط نظام تسقط معه قيم أساسية للعدالة الإجتماعية "شافيز والسلفادور الليندي ومانجستو هايلي"

ظروف الثورات العربية ومقاربة للنقاط المذكورة أعلاه
هل هناك تشكيلة إقتصادية إجتماعية قادمة، أو مؤسس لها على الأقل؟
مع غياب المنظومة الإشتراكية، بات هناك قطب واحد يتحكم في صياغة النظام الإقتصادي العالمي ولكنه كذلك تمكن من صياغة المنظومة الثقافية للشعوب (تجذير الملكية الخاصة في الوعي، التسليع،بناء مجتمع الإستعراض، المنافسة بين الأفراد والتريج لها على أنها الأساس في تطوير القدرات البشرية، الحرية الفردية السائقة إلى حرية الملكية الخاصة وحرية الإستغلال، "الديمقراطية")، في ظل هذه الظروف طغت مفاهيم الدولة المدنية والمطالبة بالحرية والديمقراطية على واجهة المشهد، وكان السبب في ذلك هو غياب أي قاموس آخر يحمل على سبيل المثال مبادئ العدالة الإجتماعية كأساس.
 فما هي الحرية ؟، وما هي الديمقراطية؟ وماهي الدولة المدنية؟ وهل يمكن الحديث عن الحرية دون الحديث عن الضرورة؟ وهل يمكن الحديث عن الديمقراطية دون الحديث عن حرية الإختيار؟
لقد تمكنت الرأسمالية بتفردها في إدارة النظامين الإقتصادي والإجتماعي من فرض مجموعة من المفاهيم المطاطة والرمادية، فيصبح الإقتصاد هو إختصار لمعاملات الأسهم والسندات والتضخم والناتج المحلي الإجمالي وسعر الصرف، أي يصبح في أحسن صوره إقتصاداً كينزياً، ويغيب عن العقل الجمعي وجود شكل آخر من الحياة يتمثل في نموذج، ولقد أسعفت الثورات الأمريكية الجنوبية في إستحضار هذا النموذج من جديد.
لقد تصدرت المطالبات الشعبية "للثورات العربية" المطالبة بالحرية والديمقراطية، فتلك هي المفردات التي كرسها القطب الواحد على مدار السنوات الماضية، والآن نحن أمام معركة مفتوحة من المفاهيم والوعي الجمعي، معركة تغيب عنها مصطلحات القاموس النقيض.
فالحرية بالمجرد هي القدرة على الفعل في الوقت المرغوب، فهل تطورت أدوات الإنتاج إلى الحد الذي يسمح بذلك، إن الحرية ما زالت تجادل إستحقاقات الضرورة، ولهذه الإستحقاقات شكلين إشتهر بهما التاريخ، إما الإستحقاق الرأسمالي، وإما الإستحقاق الإشتراكي، الذي تمثل بيروقراطياً في كثير من الأحيان، إما إستحقاق الإستغلال مقابل "الحرية"، وإما إستحقاق العدالة مقابلها.
لا يمكن الحديث عن الديمقراطية إذا كان رأس المال السياسي ما زال حاضراً كعامل أساسي في خيارات الناس. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية دون الحديث عن الحرية في الإختيار، الحرية المعزولة عن العرض والطلب وسياسة السوق.
وما هي الدولة المدنية هل هي مجتمع المبادلات الحرة كما قال آدم سميث، أم هي دولة توماس هوبز أم هي دولة جون لوك أم هي دولة هيجل ؟؟؟
لذلك، عند إنظلاق الثورات العربية كان لا بد من الإنتباه إلى التعريف سابق الذكر، هل نحن أمام تركيبة إقتصادية إجتماعية جديدة؟ هل نحن أمام تغيير جذري لأنماط ولعلاقات الإنتاج؟ أم نحن أمام إعادة إنتاج لصيغ النظام نفسه إن لم يكن أسوأ!!
إن الدول الأوروبية في أغلبها مرت في مرحلة تمكنت خلالها من بناء دولة التصنيع، روسيا وإنجلترا وألمانيا وفرنسا، لقد حرمت الدول العربية حقها في هذا التطور، وحرمت قسراً في محطات تاريخية كمرحلة محمد علي باشا وجمال عبد الناصر. الآن المهمة الكبيرة جداً للثورات العربية هي البدء في ذلك، بما يعرف بفك التبعية، وهذه التبعية هي تبعية إقتصادية وإجتماعية على السواء، وفك الإرتباط هذا، يعني إيقاف تدفق السلع والمنتجات من المراكز المصنعة إلى الأطراف المستهلكة، مما يعني أزمة في النظام الرأسمالي العالمي ككل. وهذا الإفتكاك أول أول ما يتطلب، يتطلب نظاماً سياسياً بديلاً بالكامل.
إن كان العمال والفلاحين هم الحامل الإجتماعي لثورة أكتوبر فمن حاملها في الثورات العربية؟
عما تعبر الإنتفاضات العربية اليوم، هل تعبر عن ثورة برجوازية بلا برجوازية وطنية؟ هل تعبر عن ثورة عمالية بلا إنتاج رأسمالي مركزي؟ هل تعبر عن ثورة عمالية مستعدة لحمل مهمات البرجوازية؟ أم هي إنتفاضات طائفية البعد؟
كثيراً ما يتم التنظير لمسألة ضياع الطبقة، وأنها لم تعد موجودة أساساً مع قيم "التسامح" التي تتبناها الرأسمالية. عملياً الطبقة ما زالت موجودة وبشكل واضح ولكن الفئات المضمنة تحتها إتسعت إلى حد كبير مع إنفجار ثورة الإتصالات والثورة التكنولوجية وتداخل السوق العالمي على المستوى الجغرافي، وإتساع الكمبرادور، وإنفجار الإقتصاد الخدماتي.
إن الفئات القادرة على حمل هذا المشروع هي الفئات المفقرة من المزارعين والعمال "وهنا لا بد من تعريف جديد للطبقة العاملة يتجاوز التصنيفات التاريخية التي ظهرت في سياق التجارب الخاصة" وأبناء الطبقة الوسطى المستلبين.
ولكن على الأرض، هل هذه هي الصيغة؟
مع غياب حقل المفاهيم المطلوب "المنادي أولاً بالعدالة الإجتماعية وتنحيته مقابل الإنتخابات والدولة المدنية، ومع غياب العمل السياسي المرتبط عضوياً بمصالح الطبقات المهمشة، وغياب العمل السياسي المستكشف أساساً لمكونات الطبقة، ومع التقسيمات الثانوية التي عززتها الأنظمة وال|إستعماؤ على حد سواء، تمثلت الطبقة إستعراضياً على شكل فئة في لحظات ما، وباتت توصف الثورات على أنها شيعية في البحرين، وغير علوية في سورية، وقبلية في اليمن، وما إلى ذلك. ومن هنا لعبت الأنظمة على تخيير الفئات المدللة بين الموت، والجوع الآمن برعايتها هي. "المرور على ثورة الزنوج وواقع القوميات في ثورة أكتوبر ومقارنتها في الثورات العربية".
في ظل هذه الظروف تشكلت الفئات المحتجة بناء على التشكيلات السياسية المتاحة، والتقسيمات الإجتماعية المتاحة كذلك.
وفي الجانب السياسي ومع غياب العمل المنظم الموصول مباشرة بأشكال الصراع الطبقي، تمكنت القوى الإسلامية من القفز إلى واجهة المشهد، وبتنسيق عالي الوتيرة إقليمياً وعالمياً ومع مراكز الإمبريالية العالمية مباشرة، كما يحدث في سوريا ومحاولات جادة في مصر كذلك ونتائج الإنتخابات في تونس.
في سياق الثورات العربية تصنفت النخب والجموع الشعبية إلى عدد من التيارات بات من الضروري الحديث عنها بوضوح، فالحاجة اليوم ماسة للفرز أكثر مما هي للوحدة، "الوحدة المثالية" بين صنوف المعارضة في سبيل تحقيق "الهدف الموحد"!
ينقسم الشارع والنخب إلى ثلاثة تيارات أساسية:
v   التيار المحافظ .
v   التيار العدمي .
v   التيار الراديكالي المتيقظ .
يتشكل تيار المحافظين من الإسلاميين والليبراليين والنظام القائم على حد سواء، فمعنى أن تكون محافظاً هو أن تكون راغباً في وعاملاً على الحفاظ على "النظام" الحالي"، ومعنى النظام الحالي هو مجموعة السياسات والقوانين التي يسير بها المجتمع سياسياً وإجتماعياً والأهم إقتصادياً، فالإسلاميون ينخرون صفوف المعارضة ويعملون على تصدرها للإستيلاء على النظام والإبقاء عليه، بمعنى آخر لإسقاط مسمياته وإستبدالها بمسمياتهم، فبر نامج الحركات الإسلامية معروف للجميع، يتصدره الجانب الإجتماعي المتعلق بنصوص الشريعة،  وفي الجانب الإقتصادي المعاش ، لا يتضمن برنامج هذه الحركات أي تغيير للواقع الحالي ولا يقدم حلول واقعية لمشاكل الفقر والبطالة والطرفية في الإنتاج، وبالتالي هي وجه آخر لذات النظام.
ويشكل الليبراليون مكوناً آخر لهذا الصنف، وهم مكونون بالأغلب من الفئات المستفيدة طبقياً من بقاء النظام، وبالتالي هي أميل للحفاظ على النظام شكلاً ومضموناً، والحفاظ حتى على المسميات الراهنة.
يتقاطع الإسلاميون والليبراليون في الرغبة في الحفاظ على النظام جوهرياً، وكلاهما يتبنى في عمله طريقة سليمة لخدمة مبدأً غير سليم.
التيار الثاني هو التيار العدمي، وهو التيار الذي يتوقف عند حدود "الشعب يريد إسقاط النظام" ولا يخوض أبداً في التفاصيل، ويتكون من مجموعة من المندفعين ،و يروج هذا التيار نفسه على أنه الأكثر راديكالية، ولكنه عملياً غارق في العدمية، ينظر إلى تدخل الناتو على أنه مسألة ثانوية، وينظر إلى سياسات الأنظمة على أنها التي جلبت التدخل الخارجي وليس أي شيء آخر "الطموحات التوسعية وتأبيد التبعية على سبيل المثال"، يتقاطع هذا التيار شكلياً مع كل التيارات التي تعمل على إسقاط النظام شكلاً أو مضموناً أو كلاهما ، وشكلياً هنا دلالة على هامشية دور هذا التيار، ومن هنا تأتي عدميته أساساً، فهو لا يحمل مشروعاً خاصاً به لأنه يخشى التفاصيل، ولأنه يخشى كذلك الحلول الصعبة، المرهقة ذهنياَ، وبالتالي يتبنى خيار المزاج العام ويعرض عن تغييره أو تصحيحه. يتبنى هذا التيار طريقة غير سليمة لخدمة نوايا طيبة وغير واضحة المعالم تماماً، وليس لديه أي تحفظات على بدائل السلطات القائمة من باب الإستعدادية لجولات صراع جديدة.
التيار الثالث والأهم والذي ربما لم يولد بعد بالشكل الكامل، هو التيار الراديكالي المتيقظ، الذي يبحث عن إسقاط النظام شكلاً ومضموناً إنطلاقاً من المحددات التالية:
v   الهدف الأساسي للرأسمالية العالمية هو تأبيد التبعية المالية والإنتاجية على حد سواء، ولا ينسحب ذلك بالمناسبة على التبعية الثقافية الإجتماعية بالكامل "عدا ثقافة الإستهلاك التي لا تتعارض أبداً مع توجه الحركات الإسلامية"، ولذلك نرى أن لا مانع لدى الإدارة الأمريكية أن تستلم السلطة  السياسية تيارات دينية ولكنها في ذات الوقت غير معيقة لشكل التبعية الأساسي "المالي والإنتاجي".
v   وبالتالي، ينطلق مفهوم إسقاط النظام من نقطة تغيير هذه الصيغة، من نقطة بناء نظام يعمل على "وقف التدفق"، تدفق المنتجات والسلع من المركز إلى الأطراف، يبني المنطقة العربية إنتاجياً من جهة أولى، ويفك ديونها المالية من جهة ثانية، ويساهم في تأزيم التجمعات الإمبريالية من جهة ثالثة. ، ضمن هذه الصيغة، الإسلاميون والليبراليون محافظون، والعدميون غير محددين وتائهين..
v   إن ما يحصل في الدول العربية من إنتفاضات شعبية، لهو فرصة للتيار الراديكالي المتيقظ أن يحول الإنتفاضات إلى ثورات، لأنه الوحيد القادر على حفر هذه الصيغة في إستراتيجياً وإجتراح التكتيكات المناسبة التي ستؤدي تراكماتها في نهاية المطاف إلى هذه الصيغة.
v   إن تسويف تطبيق الحلول النهائية والدفاع عنها وترويجها هو بمثابة الحرمان منها، الشعب اليوم بحاجة إلى إسقاط "النظام"....
من هم أنصار الثورة المضادة في الثورات العربية؟
عملياً من الصعب تسمية هؤلاء بأنصار ثورة مضادة، فهم مقاومون للثورة، ولا يوجد هناك ثورة مضادة أساساً. فالأنظمة تبذل حهدها من خلال اللعب المماطلة واللعب على المساخات الرمادية "قانون الإنتخاب، قانون الإجتماعات العامة، قانون محاربة الفساد، ...إلخ" والخليج يضخ الأموال لإستثناء أي خيارات مناقضة، والإسلاميون يستخدمون الوتر الديني والإقليمي أحياناً لتحويل هذه الإنتفاضات إلى مكاسب سياسية لا أكثر.
صيرورة الثورة و"التغيير الديمقراطي"
لا يختلف إثنان على ضرورة إسقاط الأنظمة العربية، ولكن كيف؟ وهذا ليس سؤالاً ثانوياً، بمعنى أنه ليس عاملاً هامشياً في معادلة الإسقاط. لا تعني الرغبة في إسقاط النظام أبداً تجاوز تدخلات الناتو، ولا رغبة الجماعات الإسلامية على إعادة إنتاج النظام بصيغ أسوأ.
يدعي البعض أن التغيير الديمقراطي، وإن جاء بالإسلاميين سيكون جيداً، لأن صيرورة هذا التغيير ستقود لاحقاً، إلى تغيير الإسلاميين أنفسهم، ولكن هل هذا صحيح؟ هل مجيء الإسلاميين لا يؤثر على قيم الديمقراطية التي قد تحيدهم أنفسهم لاحقاً.
ماذا نفعل إذن؟ هل نقف "ضد" الشعوب؟
الدول العربية جميعاً بحاجة إلى بلورة خيار ثالث، ليس النظام الحالي وليس الإسلاميين، ويعمل هذا النظام على محددأساسي:
كسر التبعية الإقتصادية وبناء إقتصاد إنتاجي يمتلك صيغ تحالفات جديدة مع المحور المعادي لأمريكا والرأسمالية العالمية.
إن المطالبين بالعدالة الإجتماعية هم العاجزين عن إنتهاكها، لا بد اليوم في دول الأطراف والدول العربية جزء منها، تقديم المعركة في سبيل العدالة الإجتماعية والتصنيع على حساب المعركة في سبيل الديمقراطية البرجوازية. كيف؟؟؟؟ يبقى هذا السؤال الإستراتيجي والتكتيكي الكبير هوالأهم....





ندوة منتدى الفكر الإشتراكي: مداخلة الأستاذ عصام التل

ربّ سائل: لماذا الحديث عن الحركة الوطنية الأردنية في عهد الإمارة، من 1921 إلى 1946؟ وهل في هذا ما يشبه أردن اليوم بعد كل ما جرى من مياه تحت الجسر؟

متصفح هذا الكتاب، للدكتور عصام محمد السعدي، يدهش لما فيه من سرد وتوثيق للوقائع، ومن تسمية للأشياء بأسمائها. فهو وإن كان يسرد بلغة سلسلة خالية من الخطابة السياسية، إلا أنه بيان سياسي بامتياز، يستند إلى الحقائق بالدرجة الأولى، وإلى التحليل والاستنتاج بدرجة أقل. وفي طياته سجل لعدد هائل من الوثائق التي يوردها في هوامشه، والتي تشكل، في معظمها، مرجعاً مثبتاً متسقاً لمن يريد أن يقرأ الرواية المنحازة إلى الجماهير لتاريخ الشعب الأردني، وحركته الوطنية، في سياقها التاريخي، منذ ما قبل نشوء الإمارة بموجب تعاقد أبرم في القدس  بين وزير المستعمرات البريطاني، ونستون تشيرتشل، والأمير الهاشمي عبد الله القادم من الحجاز، والذي يقضي بأن يمنح الأول الثاني مهلة ستة أشهر، كفترة تجريبية، "لإقامة حكم محلي فيها بمعاونة ضابط سياسي بريطاني يعمل بصفة رئيس مستشارين للأمير عبد الله، ويساعده في توطيد الأمن والنظام في شرقي الأردن... وذلك من أجل بلوغ الهدف، مقابل أن يضمن عبد الله "عدم قيام هياج ضد الفرنسيين وضد الصهيونية في البلاد، وأن يتعاونا تعاوناً كاملاً في توطيد أسباب الهدوء والأمن والاستقرار تحت الانتداب البريطاني".

"وافق الأمير عبد الله بسهولة على مقترحات تشرتشل، التي تضمنت التخلي عن المطالبة بتحرير سورية (من الفرنسيين) وبدون نقاش"، وهو الشعار الذي رفعه عبد الله قبل وصوله إلى معان من الحجاز، وجعل الاستقلاليين السوريين الذي قاتلوا المحتل الفرنسي ولجأوا إلى الديار الأردنية المتلاحمة مع كفاحهم يرحبون به ويعلنون مساندتهم لمشروعه المعلن في استرداد الدولة العربية السورية الفيصيلية، التي أجهز عليها تقسيم بلاد الشام بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وإعلان بريطانيا المنتصرة على الإمبراطورية العثمانية في الحرب الكونية الأولى وعد بلفور بإقامة وطني قومي لليهود في فلسطين.

"بعد عودته إلى عمان من القدس، أرسل الأمير عبد الله إلى والده، ملك الحجاز الحسين بن علي في 20/4/1921، رسالة يبرر فيها تنازلاته جاء فيها: "... ولتأكدي من حقيقة عدم الاقتدار على استخلاص سوريا بحرب نقيمها نحن بدون مقاومة دولية، ولوقوفي هنا على حقيقة عدم اقتدار الشعب السوري على ذلك، وتأكدي أيضاً من عدم إمكان رجوع الأخ فيصل إلى سوريا برضى من فرنسا، فقد قبلت الخطط السياسية المعقولة التي رسمتها بريطانيا وتعهدت أن أدير منطقة شرق الأردن بصفتي ممثلاً لجلالة ولي النعم..."

لخَّص اتفاق تشيرتشل – عبد الله طبيعة الوظيفة الأمنية- السياسية التي تحددت للدولة الأردنية الناشئة ضمن خريطة التقسيم الإمبريالي للعمل في المنطقة العربية لحقبة ما بعد اتفاق سايكس – بيكو، البريطاني - الفرنسي. وهي وظيفة امتدت حتى يومنا هذا، رغم كل المنعرجات وصعود وهبوط خطها البياني وفقاً لقدرات الحركة الوطنية الأردنية، كطلعية للشعب الأردني، على مجابهة المشروع الإمبريالي- الصهيوني- الرجعي في المنطقة، وللشروط التاريخية ومعطيات الجغرافيا السياسية، ومن أبرزها دور الصهيونية، وأداتها الإسرائيلية، في إفشال المشروع الوحدوي العربي عامة، والشامي، خاصة، والتحولات الاجتماعية – السياسية التي شهدتها المنطقة بدخول الاستعمار الأميركي الجديد وتوسع السوق العربية عامة، والأردنية خاصة، في أواسط خمسينيات القرن الماضي، وظهور النفط كعامل حاسم في الصراع على الأوطان وعلى وعي الجماهير، الأمر الذي وضع أمام الحركة الوطنية الأردنية مهاماً معقدة وربما أكبر من طاقتها، في مواجهة الحلف الإمبريالي – الصهيوني – الرجعي العربي، الذي يتبدى اليوم في أكثر تجلياته وضوحاً.

لم تقف الحركة الوطنية الأردنية مكتوفة الأيدي أمام المشروع الإمبريالي- الصهيوني في المنطقة. ففي مواجهة ذلك، عقدت القوى الشعبية الأردنية قبل قيام الإمارة مؤتمر أم قيس في 2/9/1920، الذي ضم في الأساس زعامات الشمال الأردني وانتهى بمعاهدة أم قيس مع المعتمد البريطاني الميجور سومرست نائباً عن المندوب السامي في فلسطين مثلت مطالب الأهالي، ومن أبرزها: المطالبة بإقامة حكومة وطنية موحدة ومستقلة، استقلالاً كاملاً، ذات جيش وطني. وبمنع الهجرة اليهودية إلى شرق البلاد منعاً باتاً، وبمنع بيع الأراضي لليهود، والمطالبة بعدم تسليم الوطنيين السوريين والأردنيين الذين لجأوا إلى شرقي الأردن إثر سقوط الحكم العربي بدمشق، وبإلغاء أحكام النفي والإعدام بحقهم من السلطات العسكرية الفرنسية.

ومع بدء الترتيبات لإقامة الإمارة في نيسان 1921، رأى الأردنيون أن ما يجري تطبيقه على الأرض يتناقض مع طموحاتهم الوطنية في النضال من أجل دولة عربية سورية موحدة تضم سورية ولبنان والأردن وفلسطين. وعلى الرغم من الطابع العشائري الغالب على الحركة الوطنية، إلا أن الأغلبية الساحقة من شيوخ العشائر، ومعهم المثقفون الأردنيون المسكونون بالهم السوري العام وبالخطر الصهيوني، ردت على ما رأته من وظيفة أمنية سياسية تحضّر للأردن والأردنيين في خدمة المصالح الإمبريالية والصهيونية بانتفاضات شعبية في الكورة، في الشمال الأردني، استمرت من أيار 1921 حتى أيار 1922. ومن ثم انتفاضة العدوان في أيلول 1923، وانتفاضة وادي موسى في شباط 1926، رغم طابعها العشائري والمحلي.

ومن أجل " توطيد أسباب الهدوء والأمن والاستقرار تحت الانتداب البريطاني"، وفقما نص عليه اتفاق القدس، ولإضفاء نوع من الشرعية على المعاهدة البريطانية- الأردنية التي وقعها نظام الإمارة مع بريطانيا في 20 شباط 1928 لضمان السيادة السياسية والعسكرية البريطانية على البلاد، والحصول على اعتراف دولي يكرس الهيمنة البريطانية المباشرة على شرقي الأردن، أصدرت الحكومة البريطانية قانوناً أساسياً لشرق الأردن في 16 نيسان 1928، بينما لجأت حكومة الإمارة إلى إصدار عدة قوانين استثنائية لخنق الحريات العامة وإجهاض حركة المعارضة الوطنية التي ولدت على قاعدة مقاومة الاستعمار والتصدي لمخططاته.

وجاء انعقاد المؤتمر الوطني الأول في 25/7/1928 رداً صريحاً يعبر عن تجاوز الأردنيين للطابع المحلي والجهوي للاحتجاجات، ويرتقي بالتعبير الشعبي إلى مستوى الحركة الوطنية الشاملة للأردنيين بشتى مكوناتهم الاجتماعية. وفي هذا المناخ، شهدت مناطق شرقي الأردن إضراباً عاماً ومظاهرات حاشدة تندد بالمعاهدة وتطالب بإلغائها، وقدم وجهاء البلاد للأمير المطالب التالية:
1. رفض المعاهدة رفضاً تاماً.
2. المطالبة بتنفيذ مواد معاهدة أم قيس حرفياً.
3. إلغاء المادة 25 من صك الانتداب على فلسطين.
4. تأسيس حكومة وطنية فوراً والمبادرة بإجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة.

وعلى إثر حركة الرفض الشعبي العام للمعاهدة، وإصرار الأمير عبد الله على التصديق عليها غير عابئ بإرادة الجماهير، تداعى زعماء البلاد في تموز 1928 لعقد اجتماع كبير في عمان مهد لعقد المؤتمر الوطني الأول في 25/7/1928.

افتُتح المؤتمر في مقهى "حمدان" بعمان، برئاسة الشيخ حسين الطراونة، وضم ممثلين عن مختلف مناطق البلاد وطبقاتها الاجتماعية، وأقر جدول أعمال تضمن، بين ما تضمن، بندين مهمين:
1. مشروعية المعاهدة البريطانية التي ستفرضها السلطات البريطانية على شرقي الأردن.
2. موقف شرقي الأردن من تصريح بلفور القاضي بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود.

كما أقر المؤتمر، بعد أن ناقش على مدار أربعة أيام متتالية جدول أعماله، "الميثاق الوطني الأردني"، وانتخب لجنة تنفيذية ضمت 21 عضواً برئاسة حسين الطراونة يمثلون مختلف أقاليم البلاد.

توالى انعقاد المؤتمرات الوطنية، بينما تولت اللجنة التنفيذية مهمة الحوار والصراع مع حكومة الأمير والمعتمد البريطاني، حيث شكلت مؤسسة المؤتمر الوطني "خندقاً شعبياً حصيناً لزعماء البلاد الوطنيين، ومصدر قوتهم، لمواجهة السياسات المحلية والبريطانية في البلاد".

فاتخذ المؤتمر الوطني الثاني، الذي عقد في قاعة فندق حمدان في عمان، في 7/12/1929، قرارات كان من أبرزها: السعي وراء الاستقلال التام أسوة بباقي البلاد العربية، والسعي لتحقيق بنود الميثاق الوطني، وإلغاء القوانين الجائرة، كقانون وضع الجرائم وقانون النفي والإبعاد وقانون العقوبات المشتركة، والاحتجاج على وعد بلفور المشؤوم الذي، وإن صح، سيكون ضربة قاضية على البلاد العربية كلها، ومقاطعة اليهود، ومنع تسرب الأراضي إليهم، والسعي للوحدة العربية.

وشهدت الفترة التي سبقت انعقاد المؤتمر الوطني الثالث، الذي انعقد في ديوان عبد القادر التل في إربد، وتم افتتاحه بنشيد وطني لطلاب مدرسة إربد، خلافات بين أعضاء اللجنة التنفيذية، حيث نجحت الحكومة في شق صفوف المعارضة، وانحياز بعض شيوخ وزعماء البلاد لمصالحهم الخاصة، على خلفية الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والجفاف، والتي دفعت البعض إلى محاباة الحكومة في محاولاتها تقديم التسهيلات للوكالة اليهودية، وبيع وتأجير أراضي الأردن لها.

وقرر المؤتمر تشكيل حكومة دستورية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب انتخاباً حراً وصحيحاً، واعتبر أن "الاضطرابات والإبهام السياسي والفوضى الإدارية والخبط القضائي والأزمات الاقتصادية المستحكمة إنما هي نتيجة محتمة لهذا الوضع السياسي الشاذ الذي عليه البلاد الأردنية".

وانعقد المؤتمر الوطني الرابع في 15 آذار 1932 وسط ظروف تفسخت فيها المعارضة السياسية، وقبول بعض عناصر المعارضة الوطنية للوظائف الرسمية، إلى حد وصف جريدة "الجامعة العربية" الصادرة في القدس لحالة هذه المعارضة بأنها "يرثى لها"، مضيفة أن "جماعة المعارضة التي حملت المبدأ الوطني وجاهدت في سبيله بضع سنوات، لم تلبث أن أدركها الوهن والهلاك، وقد اندس في صفوفها كثير من النفعيين والوصوليين الذين لم تكن معارضتهم عن مبدأ أو عقيدة، وإنما كانت لقصد الوصول إلى الكراسي عن طريق المعارضة.." ورغم الخلافات، طرح المؤتمر قضايا جوهرية ركز فيها على سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، وعلى أخطار الحركة الصهيودية على شرقي الأردن، كما على فلسطين.

وانعقد المؤتمر الوطني الأردني الخامس في السلط، في 6 حزيران 1933، في ظل أزمتين عاشتهما جماهير شرقي الأردن:
أولاً، أزمة اقتصادية عاشتها البلاد منذ 1928، بسبب سنوات القحط المتتالية وما رافقها من ضرائب فوق طاقة الناس.. مما دفع شيوخها وزعمائها إلى التفكير بتأجير أراضيم الزراعية للوكالة اليهودية، وبالفعل أجرى بعض الشيوخ اتصالات معها لهذه الغاية، وشجعهم في ذلك إعلان الأمير عبد الله في الصحف عن رغبته في تأجير أراضي "غور كبد"، و"لمن يرغب في ذلك".

وثانياً، أزمة سياسية/تنظيمية شعبية، تمثلت في حالة الانشقاق في الصف الوطني التي عصفت بمؤسسة المؤتمرات الوطنية.

بيد أن شق صفوف الحركة الوطنية الأردنية، ممثلة في المؤتمرات الوطنية، بفعل عصا القوانين الاستثنائية وقمع السلطات لها وضغوط الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، من جهة، وجزرة الوظيفة الميري وامتيازاتها التي راحت تكبر مع تضخم الدور الوظيفي للنظام في سياق التقسيم الإمبريالي للعمل في المنطقة، وتفاقم المشروع الصهيوني ومتطلباته الأمنية، لم يفت من عضد هذه الحركة. فلم يقتصر دور الأردنيين على احتضان وحماية المناضلين السوريين والفلسطينيين في قتالهم للاستعمار الفرنسي لسورية، وللانتداب البريطاني ومشروعه الصهيوني في فلسطين، وإنما تجاوز ذلك إلى الالتحاق بالثورة السورية الكبرى، التي انطلقت في تموز 1925، في وجه الاحتلال الفرنسي، فشكلوا الفرق المقاتلة، وغدت المناطق الشمالية في شرقي الأردن قواعد لانطلاق المقاتلين السوريين والأردنيين وسط صعوبات فرضتها طبيعة التحالف بين النظام وبريطانيا، والمصالح المشتركة للاستعمارين البريطاني والفرنسي في مواجهة حركة التحرر القومي العربية.

بينما لم يتوقف نضال الأردنيين ضد مشاريع الانتداب البريطاني على فلسطين وسياساته الرامية إلى توفير الشروط الضرورية لقيام الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين على النضال السياسي والاحتجاج والمؤتمرات، وإنما تجاوز ذلك إلى الكفاح المسلح المشترك مع الشعب الفلسطيني. فمنذ نهاية عام 1919، شاركت مجموعات ثورية مقاتلة في مختلف نواحي (بن عبيد، والكورة، والوسطية، والسرو، والكفارات) في الشمال الأردني، إضافة إلى مناطق الوسط والجنوب، بقيادة القائد الوطني أمير اللواء علي خلقي الشرايري في إربد، وأديب وهبه في السلط، في إشعال ثورة مسلحة هاجمت المعسكرات الفرنسية من جهة، والمستعمرات الصهيونية (في المطلة وتل حي والحراء وكفر جلعاد) من جهة ثانية. وظل الأردنيون يشاركون في النضال الفلسطيني بكافة أشكاله بعد تأسيس دولة الإمارة طيلة عقد العشرينيات، في وجه قمع السلطة وضباطها البريطانيين للحركة الجماهيرية. فشارك الأردنيون في المؤتمرات الفلسطينية التي كانت تعقد في وجه الانتداب وسياساته، وضد الاستيطان الصهيوني، إلى جانب ممثلي حركة التحرر العربية في بلاد الشام، وفي المظاهرات التي كانت تخرج في المدن الفلسطينية، حيث عمت المظاهرات عمان والسلط وإربد، وباقي مناطق البلاد، تأييداً للإضراب العام في فلسطين ، وصولاً إلى المشاركة المسلحة في الثورة الفلسطينية 1936 – 1939. إذ دعى حزب اللجنة التنفيذية، الذي انبثق على المؤتمرات الوطنية، إلى عقد مؤتمر وطني في "أم العمد" في 7 حزيران 1936 وكان من أبرز قراراته خوض الكفاح المسلح إلى جانب الشعب الفلسطيني.

ووسط تضامن شعبي عارم تبدى في الحماس للتطوع في صفوف المقاتلين وفي المظاهرات وجمع التبرعات في مختلف أرجاء الأردن، تأييداً ودعماً لكفاح الشعب العربي في فلسطين، أصبح الشمال الأردني الطريق الآمن لنقل مختلف أنواع الأسلحة والذخائر والمؤن من سورية والعراق وشرقي الأردن إلى فلسطين.

وعندما تجددت الثورة الفلسطينية في تشرين الأول 1937 بعد خمود مؤقت، شددت السلطات المحلية والبريطانية في شرقي الأردن من إجراءاتها القمعية، غير أن هذه الإجراءات لم تثن الشعب الأردني ومؤسساته الوطنية عن مواصلة مشاركة الشعب الفلسطيني كفاحه المسلح، فاندلعت الثورات المحلية، خاصة في إقليم عجلون، فهاجم الثوار أنابيب النفط ونسفوها، وزرعوا الألغام في الطرق التي سلكتها قوات النظام وقوات قائد الجيش، بيك باشا، لتعقب المناضلين الأردنيين والسوريين والعراقيين، في محاولة لمنعهم من المشاركة في الثورة.

ومع أنه من غير المتاح التوسع في تفاصيل هذا الدور الوطني ذي البعد القومي في النضال السوري العام ضد الإمبريالية والصهيونية وأدواتها المحلية بسبب الحدود الزمنية للمرحلة التي نتحدث عنها، إلا أنه لا بد من الإشارة هنا إلى بطولات الأردنيين في الدفاع عن فلسطين في معارك باب الواد واللطرون والقدس وغيرها من معارك فلسطين، واستبسالهم في  الخروج على أوامر قيادة الجيش البريطانية وتواطؤ السلطة السياسية، من أجل دعم كفاح الشعب الفلسطيني وتزويده بالسلاح قبل حرب 1948، وخوض غمار الحرب وسط حصار استعماري ورسمي شرس لم يترك لهم سوى لحمهم الحي وإرادتهم الشجاعة يواجهون بهما المؤامرة الإمبريالية- الصهيونية وأدواتها العربية المحلية، وهي الصورة التي تكررت في معركة الكرامة، عقب ذلك بعشرين سنة، عندما انفلت الأردنيون من قبضة وسطوة القيادة السياسية عقب هزيمة حزيران 1967، ليلقنوا، مع رديفهم الفلسطيني المقاوم، الغازي الإسرائيلي درساً لا ينساه.

هل لكل هذا علاقة بوظيفة النظام الأردني الأمنية- السياسية التاريخية ضمن التقسيم الإمبريالي للعمل في المنطقة؟

لا يحتمل البحث إيراد الكثير من الأمثلة على هذا الدور، والتوسع في تفاصيله، ولكن تكفي الإشارة إلى التدخلات العسكرية والأمنية والسياسية الأردنية، التي أعقبت انقلاب 1957 ضد حكومة سليمان النابلسي الوطنية وما أعقبها من حملة شرسة لتصفية الحركة الوطنية الأردنية وأحزابها وضباطها الأحرار، في اليمن أواسط الستينيات وظفار والبحرين أواسط السبعينيات وثورة جهيمان السعودية وسورية إلى جانب الإخوان المسلمين أواخر السبعينيات، وأفغانستان والعراق وليبيا والبحرين مؤخراً، دليلاً على استمرارية هذا الدور، وعلى منهجيته وعضويته.

أما عقب نكبة فلسطين في 1948، فتكفل النظام الأردني بضم الأراضي الفلسيطينية التي عرفت فيما بعد بالضفة الغربية بالتفاهم والترتيب مع بريطانيا والحركة الصهيونية، وبمساعدة من بعض الزعامات الفلسطينية ذات الارتباط التاريخي بالانتداب البريطاني. وبغض النظر عن الوشائج التاريخية للشعبين التوأمين، فإن الغاية من ذلك كانت الحيلولة دون ممارسة الفلسطينيين حق تقرير المصير ووضعهم تحت الوصاية السياسية الأردنية، وتسهيل استيعاب أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين الذين يشردهم قيام الكيان الصهيوني، تمهيداً للإجهاز على هويتهم الوطنية وضمن سياسة منهجية تفضي، في نهاية المطاف إلى أردنتهم قسراً، مستخدماً في ذلك العصا لمن يعمل على ممارسة حق العودة، والجزرة لمن يبحث عن الحلول الشخصية لقضيته الوطنية.

بيد أن للتاريخ قوانينه الصارمة. وهذه الوحدة بين ضفتي الأردن، وما ترتب عليها من حقائق مادية وقانونية واجتماعية وسياسية، قد أنجبت حركة وطنية عظيمة أسقطت حلف بغداد ومشروع أيزنهاور، وألغت المعاهدة الأردنية - البريطانية وطردت الضباط الإنجليز من الأردن، بنضالاتها في شوارع عمان ونابلس وإربد وجنين وجميع مدن الدولة الوليدة، وأرست حقائق لا يمكن إلغاؤها، بالعودة إلى بداية الحكاية، وإنما بالتدخل الثوري الذي يقرأ الضرورة التاريخية جيداً ويبني عليها مقتضاها. وليس أمام الأردنيين والفلسطينيين اليوم إلا إدراك الصورة بمجملها، ضمن حراكها الأردني، والعربي، والعالمي، وبحسب قوانين الجدل التي تحكم هذا الحراك، ليصنعوا مستقبلهم بتلاحمهم وبأيدهم.

فاليوم، وببساطة، من الواضح أن الوظيفة التاريخية للنظام الأردني، الذي ألحق قسطاً هائلاً من الأردنيين بالمصالح المترتبة على دوره من خلال تغول الدولة الأردنية ووظيفتها على المجتمع، هذه الوظيفة قد غدت في مهب الريح. فالأزمة التي يعاني منها النظام الإمبريالي العالمي، وبالنتيجة النظام الرأسمالي برمته، لا تبدو قابلة للحل عن طريق الحروب على غرار ما حدث أيام "الكساد العظيم" في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، بل على العكس من ذلك، وبالتالي فإن الدور الجيوسياسي للدولة الأردنية، ورغم أنه ما زال ضرورياً، لم يعد قابلاً للإعالة، لأن الإمبريالية، وهي تسعى إلى الاستيلاء عل مقدرات العالم، ونفطه على وجه الخصوص، علّ ذلك يوقف انهيارها، لن تترك حتى الفتات للقطاع الخدمي في جغرافيتها السياسية. وعلى الأردن أن يقدِّم خدماته الأمنية والسياسية مجاناً، أو يكاد، بعد أن بيعت كل أصوله الثابتة تقريباً، ابتداء من أراضي العقبة، مروراً بالماء والهواء والثروات المعدنية والمشاريع المنتجة، وليس انتهاء بخدماته الأمنية والعسكرية والاستخبارية واللوجستية القابلة للتسويق في المنطقة، بما في ذلك أن يصبح الأردن، وبحسب التقارير الإخبارية، معقلاً "لبلاك ووتر" سيئة الصيت، وبما يعنيه ذلك من انتقال من دور "المقاول من الباطن" إلى السمسرة لدى مقاولين من الباطن.
فهل يكفي هذا الدور لإعالة مجتمع دُمرت فيه كل سبل الإنتاج، وغدا يعيش على الريع الذي يدره دور لم يعد مجدياً وسط تزاحم الأولويات لدى الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، والجنون المنفلت من عقاله الذي غدا السمة الملازمة لتداعي الديناصور الإمبريالي، ومحاولته، بالضرورة، تدمير العالم والانتقال به كلياً إلى تخوم الهمجية في معركته من أجل الحفاظ على بقائه؟

أمام هذه الصورة، وفي عصر الفوضى الأمريكية الخلاقة، الذي التحق به عربان القرن الحادي والعشرين بلا خجل أو قناع، وبخاصة نواطير النفط؛ وأمام أزمة الصهيونية في إسرائيل الناجمة عن اختلال موازين القوى في المنطقة في غير صالحها، ومحاولتها الخروج من مأزقها السكاني الداهم ونهوض قوى المقاومة وصحوة الجماهير العربية، لا يبقى أمام السيد الأميركي وتابعه الصهيوني، سوى إعلان الأردن دولة للفلسطينيين، علّ ذلك يخلط الأوراق لبعض الوقت.
وهذا لا يلقى هوى، لا لدى الجماهير الفلسطينية، وكل ما عليكم هو الذهاب إلى المخيمات الفلسطينية، وتحسس نبضها في هذا الصدد. ولا يلقى هوى، كذلك، لدى الأردنيين قبل سواهم. فمن ذا الذي سيقيم دولة الفلسطينيين في الأردن؟

أيها السادة، أيتها السيدات،
هذه هي وصفة الفوضى الخلاقة الأردنية. وما يراد لنا هو الغرق في الحديث المبتذل عن حروب السنة والشيعة والعلويين، وحروب العرب مع الفرس والأكراد، وحروب المسلمينة والأقباط، وحروب الشرق الليبي مع الغرب الليبي، وليس أقلها حروب الأردنيين مع الفلسطينيين، الوصفة الجاهزة لدمار الأردن، لا للوطن البديل.

هل يستطيع النظام مواجهة هذه المخاطر، التي لا تخدم مصالحه بالتأكيد، وإن كان يميل إلى استخدامها عندما تقتضي الحاجة ذلك؟ إن هذا يتطلب أن يخرج النظام من تاريخه ومن جلده. وبالنسبة لي، لم أر نظاماً في التاريخ أوغل إلى هذا الحد في العبودية لإملاءات الإمبريالية وخرج من جلده وتاريخه... فما العمل؟

أيها الفلسطينيون، أيها الأردنيون
هذا وطنكم بين أيديكم فاحموه. دافعوا عنه بأن لا تكونوا، أولاً وقبل كل شيء، أداة لتدميره من حيث تدرون أو لا تدرون. والغد يمكن أن يكون مشرقاً.

بالنضال حتى ينصهر الأردن في أتون معسكر عربي مقاوم يوقف حلف الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية عند حده، وينتقل إلى تحرير الأوطان من كل تبعية، ويلغي المعاهدات والشراك التي نسجها هذا الحلف، على طريق تحرير الأرض الفلسطينية، وهذا ممكن، وتقرير الشعب الفلسطيني المناضل مصيره على أرض وطنه. وإلى حين ذلك، فكل أوطان العُرب وطن للفلسطينيين، وكل الشعوب العربية مدعوة  إلى الدخول في التاريخ، لا أن تبقى على هامشه.