الخميس، 7 يونيو 2012

ربيع للإخوان أم ربيع للإنسان العربي

قد يتساءل القارئ لماذا نهاجم خيار الاسلاميين كبديل للسلطة؟ وإن كانت صتاديق الإقتراع "الديمقراطية" هي التي ستأتي بالإسلاميين إلى السلطة، فلم لا؟ وإن كان الناس هم الذين يتعطشون لهذا الخيار، فلم لا؟
o      إختلف العديد في تسمية الإنتفاضات العربية، هل كانت ربيعاً للعرب أم خريفاً عليهم؟ ولا بد هنا من التمييز بين أسباب إندلاع هذه الإنتفاضات من جهة ومدى التحايل عليها ومحاولات إجهاضها من جهة أخرى. أسباب الإندلاع كانت تتمركز في حالة السخط والحقد الذي تراكم على صدور الطبقات المفقرة في العالم العربي، والشعوب العربية أشارت بإصبعها إلى أساس المشكلة: النظام السياسي، أن يتم إسقاطه تماماً دون الدخول في أوهام الإصلاح وغيره. هذه الانطلاقة كانت صادقة، عفوية ومعبرة، إفتقرت إلى بعض الأساسيات في التنظيم نظراً لغياب هذه الخبرة عن الشارع العربي فترة طويلة من جهة، ونظراً لضعف التنظيمات القائمة التي إحتوتها السلطة لسنوات طويلة من جهة أخرى. وبالتالي كانت ردة الفعل للرأسمالية العالمية واضحة، وهي الحفاظ على النظام بطريقة حركته، حتى ولو سقطت مسمياته، ولم يغب عن ذهن الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الإستعمارية، والمؤسسات المالية الكبرى أن الاسلاميين يشكلون بديلاً موضوعياً ومريحاً، لماذا؟
o      ما قد يزعج الرأسمالية العالمية في تولي أي تيار بديل للسلطة، إما أن يكون تياراً مقاوماً للكيان الصهيوني، على شاكلة حزب الله في لبنان، حتى ولو كان لا يمتلك مشروعاً تحررياً كاملاً للإنسان العربي، يضم السياسي والإجتماعي في حزمة واحدة. أو أن يكون تياراً ذا توجه إقتصادي مختلف، كأن يتبنى التأميم، أو منع الاحتكارات و محاصرة الاستثمار الأجنبي لصالح الشعب، كما حصل إلى حد ما في تجربة هوغو شافيز وبعض دول أمريكا الجنوبية.
o      التيارات الإسلامية المتربصة للسلطة في العالم العربي، والتي تحمل تاريخاً طويلاً تحت عنوان الإسلام السياسي، لا ينطبق عليها أياً من الشرطين السابقين، بمعنى أنها ليست تيارات مقاومة،ليست على شاكلة حزب الله، بل على العكس هي تعلن بكل وضوح عدم دخولها في أي معركة تناحرية ضد الكيان الضهيوني، وبذلك هي تتقرب أكثر وأكثر من الولايات المتحدة الأمريكية ومنظومة الإستعمار الجديد، وفي ذات الوقت تحاول إيجاد مبرر يتم تمريره في الأوساط الشعبية، أنها تيارات مسؤولة و متوازنة وعقلانية وغير متهورة وحريصة على حياة شعوبها في أمان. هذا هو توجه التيار الإسلامي في تونس، وهو ذاته في ليبيا ومصر كذلك. فمن الطبيعي إذن أن لا تكون هناك مشكلة سياسية لدى المشروع الصهيوأمريكي مع هذا الخيار.
o      هذه التيارات لا تمتلك برنامجاً إقتصادياً خاصاً بها يمكن تمييزه عن الأنظمة الإقتصادية التي تتبناها الأنظمة الحالية، بمعنى أن خيار التأميم ولعب الدور المركزي للدولة في الإقتصاد هو خيار غير مطروح، وكذلك الحال بالنسبة لتقييد الإستثمار الأجنبي، أو فرض شروط وطنية قاسية عليه، أو إتخاذ موقف جديد ومعاد للمؤسسات الدولة الكبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك والدولي، أو إفساح المجال لتحالفات إقتصادية جديدة بمعزل عن الخيار الأمريكي، أو البدء بمشروع صناعي تقني حقيقي ينهي حالة التسول التي تعيشها الشعوب العربية. بمعنى أن الإسلاميين يحملون بالحد الأقصى برنامجاً إجتماعياً مفصولاً ومعزولاً عن محتوى الصراع الطبقي، وهذا البرنامج الإجتماعي يتمظهر في شكليات لها علاقة بتطبيق الشريعة الإسلامية وبمنحى دعائي.
o      خيار الإسلام السياسي معاد في بنيته للإبداع الفني و الموسيقي والمسرحي، هو عدو له، وهذا جزء من دعايته للناس الرافضين داخلياً لذلك. وهنا يجب أن نمايز بين دفاعنا عن الفن الإنساني الحقيقي، وفنون الهستيريا الليبرالية الطابع.
الخيار الاسلامي هو إبرة المورفين عالية الجرعة للثورات العربية، والأمريكان يعون ذلك جيداً، طوال السنوات الماضية وضع الإسلاميون أنفسهم صورياً في موقع المعارضة، وإستخدموا الدين كماكينو تحشيدية لهم، لذلك ليس من الغريب أن تتجه السيكولوجيا الجمعية للناس صوبهم كخيار بديل، وأن يروا فيهم خيارهم. ولذلك المطلوب أمريكياً في المشهد القادم أن يستلم الإسلاميون السلطة، ولا يتغير شيء على البنى الإقتصادية، ولا يأخذ الصراع مع الكيان الصهيوني منحىَ تناحرياَ، القليل من الكلاشيهات الإجتماعية بنكهة دينية ليضمن تأثير المخدر، أن الثورة قد نجحت، والتغيير قد إبتدأ.
ما نقوله هنا، أن الانتفاضات إنطلقت من واقع الفقر والحرمان، لا نريد جولة جديدة من الخداع والتخدير، هذا هو بالضبط الدور الراهن للاسلاميين الذي علينا جميعاً أن نعي خطره في إجهاض المشروع التغييري في رمته.


ما حدث في مراكز التربية الخاصة، لا حلول في المنتصف

الحدث
التصوير الذي قامت به حنان خندقجي وقدمته لل BBC لم يكن مفاجئاً البتة، ومن قال أنه من المفاجئ أن يحدث هذا في الأردن، واحد من إثنين: إما أنه يحاول إخفاء الحقائق المرة التي يعيشها هذا البلد، أو أنه من الأغلبية الطيبة التي زيفت وعيها الصحافة ووسائل الإعلام المتنوعة.
في أحداث من هذا الطابع، ليس من الصحيح أبداً أن تنوقف عند الحدث في حد ذاته وتفاصيله بمعزل عن المسبب الأساسي لوجوده ، ولهذا تم فتح هذا الباب "في تحليل الحدث" كزاوية مستقلة في موقع راديكال. العديد من الناس شاهد الفيلم، والمظاهر اللاإنسانية في التعامل مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، من ضرب وشتم وإهانة وتعذيب حتى.
ردة الفعل واضحة، تصدر الأوامر من كل صوب وجهة لإغلاق المراكز، ومحاكمة القائمين عليها، وستنشر الصحافة أخباراً ومقالات عن الحادثة، وستحمل المواقع الإلكترونية المقاطع الأكثر إستفزازاً، وسيتبادل الناس المشاهد على الهواتف النقالة، وستنتفض المنظمات الحقوقية مطالبة بإجراءات حاسمة، وستجري محاسبات لمسؤولين في الوزارات المعنية بالشأن الإجتماعي، وستصدر البيانات عن المؤسسات الشعبية المختلفة منددة بالحدث، والكثير الكثير من ذاك. بعد أيام ولربما أسابيع معدودة، يبرد الحدث، وتبدأ الصحافة في البحث عن صيد جديد، ولا يعود أحد لينظر إلى المشهد المستهلك، والمنظمات الحقوقية تنصرف لمتابعة عملها حالها حال الصحافة، والإستنفار اللحظي المضحك في وزارة التنمية الإجتماعية يتوقف، والمؤسسات الشعبية ستنشغل في بيانات جديدة لأحداث جديدة، وسيجري الإعلان عن تجديد المراكز بعد محاسبة "الفاسدين"، ويتبعها زيارة تنكرية يعلن عنها لاحقاً في التلفاز، وتكون نتيجة الإختبار النجاح بالضرورة، وينتهي الحدث، إلى أن تظهر حنان أخرى تكرر المشهد السابق بالكامل، سوف يتكرر الحدث مئات المرات، وليس في هذه المراكز فقط، سيتكرر ويتكرر، في المستشفيات والمراكز الصحية ومراكز الأمن ومراكز التأهيل والمدارس والجامعات، ما جرى ليس حدثاً عابراً، إنه ظاهرة متأصلة وملازمة للنمط الإجتماعي الذي نعيش والذي قرره النظام السياسي. لأنماط الحياة الإجتماعية طابعاً حزمياً، والنظام السياسي في بلدنا إختار هذه الحزمة، حزمة متكاملة الفساد جزء منها لا يحارب بمعزل عن باقي العناصر الصديقة له في ذات الحزمة. ولكن ما هي هذه الحزمة؟

حزمة واحدة
لا يمكن لك أن تطالب بمراكز تربية خاصة جيدة، دون أن تطالب بعودة كاملة للدولة من سباتها العميق، هذه العودة تحمل في طياتها الرقابة الجادة، وبناء منظومة المجتمع القيمية على أساس جماعي وعلى النقيض من المنظومة الفردانية، نحن جميعاً اليوم بحاجة إلى هذا التأهيل النفسي، أن نصبح جماعيين، أن ننتزع من داخلنا الفردانية والحلول الأنانية التي جعلها النظام السياسي الشكل الوحيد لهذه الحياة، وهذا ليس قراراً فردياً، بل قراراً سياسياً بحتاً. لا يوجد في الواقع حل إسمه "محاربة الفساد"، هذا شعار على المستوى الفلسفي مضحك، ولكنه في ذات الوقت إحدى الوسائل التي تحشد الساخطين، الذين سيصلون في النهاية إلى الجدار الأخير "المشكلة في النظام السياسي بأكمله، إقتلعه وستقتلع معه الفساد وستبيني مراكز جيدة للتربية الخاصة، هذه هي المعادلة الجذرية الوحيدة، وهذا هو الحل الوحيد".
اليوم نحن أمام نمطين شموليين للحياة، إما الفردانية وإما الإشتراكية. إما الحلول الفردية وإما الحلول الجماعية، إما مراكز خاصة للتربية الخاصة "تبحث عن إرضاء الزبون، أقول إرضاء الزبون"، وإما مراكز للتربية الخاصة هي تمظهر لمنظومة سياسية إجتماعية إقتصادية تقودها دولة حقيقية غير متهربة من مهامها، والأهم أنها تمتلك مشروعاُ حقيقياً.
"الدولة الفاسدة" هي إحدى أوضح مظاهر المنظومة الرأسمالية، للأسف لا يوجد حلول في المنتصف، وهذه هي الحقيقة المرة التي ستصبح يوماً ما وعيا جمعياً لا محالة.


فريدريك هايك والطريق إلى الرق

أنتجت الرأسمالية مجموعة من المنظرين لأفكارها، وأقول المنظرين وليس المفكرين أو الفلاسفة، فمن خلال النظر البسيط إلى النتائج، نرى اليوم أن كارل وماركس وحتى لينين يوضعان في سياق الفلاسفة والمفكرين، فكلاهما يحمل مادة دسمة من الأفكار والتجارب والإستنتاجات الفلسفية المتقاطعة مع ما هو إجتماعي وإقتصادي وعلمي طبيعي كذلك. لم يكن هذا حال آدم سميث أو ميلتون فريدمان أو فريدريك هايك، وما زالت هذه الأسماء في الوعي الشعبي الجمعي، أسماءً مجهولة ولا تحمل الدسم في وجباتها النظرية الخفيفة.
فريدريك هايك هو منظر نمساوي للأفكار الرأسمالية، ولد عام 1899 وتوفي عام 1992. روج هايك للأفكار الرأسمالية المبنية على السوق الحر بإعتباره الأساس للحرية الإنسانية وعلى النقيض من الإشتراكية المعتمدة على التخطيط المركزي معتبراً إياها نموذجاً قمعياً ديكتاتورياً مقيداً للحرية.
إحدى هذه الأفكار روجها من خلال كتابه المنشور عام 1945، "الطريق إلى الرق"، ويعتبر أن الإشتراكية هي العبودية، وهي النظام المقيد للحرية، كانت هذه الفكرة أو ذاك العنوان "التخطيط والسلطة"
التخطيط والسلطة
يعتبر هايك أن الديمقراطية عائق أمام الإشتراكية في قمعها للحرية، ويعتبر أن هذا القمع متطلب أساسي للإقتصاد الموجه، و أن التخطيط ينتج أعتى سلطة في التاريخ وأكثرها وحشية، وأن هذه السلطة ما دامت في يد جهة واحدة "الحزب" فبالتالي هي سلطة عظمى،فسلطة مكتب التخطيط المركزي أعظم من السلطة التي تمارسها المكاتب الخاصة للمدراء.
يستطرد هايك في شرحه "إن أي عامل غير ماهر مهما كان قليل الأجر يتمتع بحرية التصرف في حياته وتصريف أموره أكثر بكثير من العديد من أرباب العمل، وأكثر بكثير من المهندس أو المدير في روسيا"، ويؤكد أن العامل في أميركا أو بريطانيا إذا أراد أن يغير مكان عمله أو إقامته أو أن يحترف مهنة أخرى فلن يواجهه حينها أية عقبات، والسبب الأساسي في ذلك، والذي يجعلنا نقرر ما نفعل بملء إرادتنا هو السيطرة المتعددة والمقسمة لوسائل الإنتاج على العديد من الأفراد الذين يتصرفون بشكل مستقل.
يعتبر هايك أن الجدل الليبرالي لا يدعو إلى ترك الأشياء كما هي عليه، بل يدعو إلى أفضل إستخدام ممكن للتنافس في سبيل تنسيق الجهود البشرية، ومن أجل جعل التنافس يعمل بشكل مفيد لا بد من وجود إطار شرعي معد بعناية، وهذا الإطار هو التدخل الحكومي البسيط المتمثل في تحديد ساعات العمل، والترتيبات الصحية اللازمة، وبالتالي هو يتحدث عن تخطيط للمنافسة وليس تخطيط ضد المنافسة.
في نقد الأفكار
o      تمتلك الإشتراكية ديمقراطيتها الخاصة، الأرقى والأشمل والأدق تعبيراً، وهذه الديمقراطية هي ديكتاتورية البروليتاريا، وهذا التعبير الذي يرفضه اليوم حتى أهل اليسار الجدد ما زال راهناً، راهناً جداً، إنها السلطة التي يمتلكها الأغلبية العظمى من الشعب "العمال" على النقيض من الديمقراطية البرجوازية وإنتخابات رأس المال التي لا تمثل إلا الأقليات الإحتكارية.
o      إعتمد هايك ومعظم منظري الرأسمالية على مقدمة مفادها الحرية الإقتصادية، وأن هذه الحرية الإقتصادية هي الأساس، وحين تضيع لا معنى للحديث عن حريات أخرى. إن الحرية الإقتصادية هي بالضرورة أعلى أشكال القمع للبشرية، فلهذه الحرية مجموعة من المحددات، مجموعة من الأساسات، لا تمتلكها إلا الأقلية، الأقلية وحدها القادرة أن تكون حرة إقتصادياً بمعنى الكلمة، حرة وبلا حسابات، وبلا قلق الخسائر، وبلا داعي حتى لدراسة أدبيات رأسمالية إضافية من شاكلة "إدارة المخاطر"، إذن هذه الحرية هي القمع في قمته وليست العكس.
o      الديمقراطية بطبعتها الليبرالية تمكن الرأسمالية من تنفيذ المزيد من الهيمنة والقمع، وتساعد كذلك في خلق دوائر من الشحن والتفريغ الشعبي، الأمر الذي الذي يمكنها من الخروج من أزماتها المتكررة، ولكن إلى متى؟
o      منذ عصر الثورات البرجوازية على الإقطاع، وهذه الطبقة تروج لفكرة الحرية القائمة على القدرة في إختيار السيد، وإستمرت في ترويج هذه الفكرة في عصر الرأسمال التجاري والصناعي والتكنولوجي كذلك. تحاول هذه الطبقة أن تظهر وكأنها متفرقة، لا يجمعها رابط، تحاول التعبير عن نفسها وكأنها أكثر من خيار، وأكثر من حل، ولكنها في التهاية طبقة واحدة، ومصالحها واحدة، ونمط الحياة معها نمط واحد. إن السلطة القمعية هي التي تمارس هذا الشكل من السيطرة الصامتة أحياناً، وليست تلك التي تعبر عن نفسها ومشروعها بشكل واضح.
o      لا يوجد هناك حرية فردية  في الرأسمالية في إختيار العمل، وتغيير المهنة وما إلى ذلك. وهنا أتحدث عن الأغلبية، فاختيار العمل، وتغيير المهنة كلها مرهونة لحساب العرض والطلب والدخول، لن يتمكن الإنسان من تغيير مهنته بسهولة، وهناك ما أطلقت عليه الرأسمالية مسار العمل "Career Path"، وتغيير هذا المسار له ضريبته العالية من تراجع للدخل والقدرة على العيش؟، ومن هنا فهذا خيار لا يقدر عليه سوى الأقلية، أقلية الحرية الإقتصادية.
o      هل التخطيط للنشاط الإقتصادي حتمي؟ نعم بالتأكيد هو كذلك، شكل التخطيط المطلوب اليوم للبشرية هو التخطيط المركزي، التخطيط الإشتراكي، القادر على حماية البشر من الموت جوعاً لحساب الأقلية، وفي ذات الوقت القادر على حماية الطبيعة من المزيد من التلوث، وحمايتنا من الإنقراض بمقدمات علمية واضحة. الرأسمالية نفسها والتي تروج للحرية الإقتصادية تعجز ولا ترغب أن تخلق مجتمعاً كذلك، فالنشاط الإقتصادي الذي تمارسه هو نشاط مركزي ولكن لصالح من؟ ما نريد فعله هو أن يكون النشاط والتوجيه الإقتصادي مركزياً ولكن لصالح طبقة أخرى هذه المرة، نريد أن عكس مسميات الحرية ونغير أصحابها من الأقلية المطلقة إلى الأغلبية المطلقة.
من الملفت للإنتباه أن مؤلفات الرأسمالية لم تلقى رواجاً عند الشعوب، ولكنها وجدت لها مكاناَ في أوساط النخب المخملية وفي دوائر الحكم "رجال الأعمال السياسيين" (مركز التوجيه الإقتصادي)، لم يكن هذا حال كتيب صغير بحجم "البيان الشيوعي" الذي ما زال يطارد الرأسماليين في كل مكان. من الثورة الصناعية إلى الثورة التكنولوجية الدقيقة، ما زال هذا البيان راهناً.



ثورة الطلبة والثورة الشاملة

مارك كورلانسكي هو كاتب أمريكي معادي للماركسية، ألف كتاباً بعنوان "السنة التي هزت العالم"، يتحدث فيه عن ثورة الطلبة في فرنسا، ويحاول أن يقدم مجموعة من الأحداث التاريخية المتعلقة بهذه الثورة، ويستند إليها في الوصول في الأغلب إلى إستنتاجات خاطئة.
ما يهمنا  ليس الكتاب بحد ذاته، ولكن التوقف عند إنتفاضة الطلبة في فرنسا عام 1968، كيف إنطلقت ، وما هي الشعارات والمطالب الأساسية لها، وإلى أين إنتهت؟ هل نجحت أم فشلت؟ ماذا يمكن لنا أن نستفيد من هذه الالإنتفاضة التي لم تتحول عملياً إلى ثورة بالمعنى العميق للكلمة؟
كانت تعيش فرنسا حتى عام 1968 وضعاً مركباً ، تتشابك فيه مجموعة من المسائل الداخلية والخارجية:
o      الخروج من حقبة الحرب العالمية الثانية بتراجع كبير على سلم القوى العظمى في العالم.
o      العلاقة مع الغرب الإستعماري "الناتو" وبصفة فرنسا جزء منه، ومن ذلك مشاركتها في الهزيمة في معركة "ديان بيان فو" أمام المقاتلين الفيتناميين.
o      كان عقد الخمسينيات و الستينيات بالنسبة لفرنسا هو عقد "الإستقلال" للعديد من الدول التي وقعت تحت الإستعمار الفرنسي، تونس والجزائر والمغرب.
o      وعلى الصعيد الداخلي مجيء حكومة ديغول، بصيغة تفاهم لاحقة كذلك مع الحزب الشيوعي الفرنسي.
الرواية التاريخية القائلة أن التحرك بدأ من الطلاب صحيحة. وكان الإنتقال من نقد الجامعة وبرامجها إلى نقد للمجتمع برمته، كان من الواضح لدى الطلبة الفرنسيين أن المشكلة لا يمكن أن تتجزأ بذاك المنحى الهزلي، لا يمكن أن تكون المشكلة هي مشكلة جامعة أو مؤسسة تعليمية، لا بد أن تكون أبعد من ذلك بكثير. لقد دخلت المجموعات الطلابية في حوارات عميقة خلال خلال هذه الإنتفاضة، تناقشت في ماركس وإنجلس وماو وجيفارا وستالين وتروتسكي و ماركوز وغي ديبور وليوتار. نزل فوكو إلى الشوارع، و وزع سارتر المنشورات في شوارع باريس وتم إعتقاله قبل أن يأمر ديغول بإطلاق سراحه، أحرق الطلاب مسرح جامعة السوربون الذي يقدم فناً هزيلاً وأعلنوا عن لجنة لإحتلال الجامعة بأكملها، أحرق الطلبة صور كل من يقدم أدباً رديئاً أو موسيقى سلعية، تم التنسيق مع العمال على مستويات عالية و إعلان المجالس العمالية. من جملة الشعارات التي رفعتها الإنتفاضة عام 1968م:
o      منع الممنوع.
o      شنق البيروقراطي الأخير بأمعاء آخر برجوازي.
o      نحن هيئة أركان بلا جنود.
o      لا تعطي حريتي سأتولى الأمر بنفسي.
o      إحتلال المصانع.
o      إلغاء مجتمع الطبقات.
o      السلطة لمجالس العمال.
o      إنهاء التسليع والتشيؤ والإستلاب والإغتراب، بمعنى آخر إنهاء حقبة الرأسمالية.
يقول عامل فرنسي تعليقاً على ما جرى في ثورة 1968م: "لقد طالبت بأجور أعلى، وهكذا فعل والدي من قبلي، والآن لدي سيارة وثلاجة وتلفاز وسيارة فولكس فاجن، ولكن لو سألتني لقلت لك أنها حياة كلب من البداية حتى النهاية"، هذه هي عناصر الإستلاب والتشيؤ التي تعرضت لها إنتفاضة مايو بكل وضوح.
للأسف، لم تكتمل هذه الإنتفاضة، ولم تتحول إلى ثورة، وبعد حالة الهدوء التي لحقت بكل ما حدث، تم إنتاج سلطة ديغولية مرة أخرى. لقد كانت إنتفاضة كلانية على كل ظواهر المجتمع، جمعت بين الظاهرة والسبب في وصف واحد، وحاربت كل الجبهات المعادية دفعة واحدة.  كانت محاولة لثورة شاملة وبحزمة واحدة. ولكن لماذا لم تتكلل هذه المحاولة بالنجاح:
o      إنتفاضة 1968، محاولة ثورية راقية، ولكنها لم تكن راهنة، بمعنى أن الواقع لم يحملها، وممكنات الواقع لم تستوعب مطالبها. ربما أنها اليوم أصبحت راهنة أو إقتربت من ذلك، ربما أن خطاب العمال والإستلاب والتشيؤ والإغتراب ومحاربة الفن الهزيل إقتربت من إمكانية التعبير في حزمة واحدة.
o      ما زالت الحاجة للعمل المنظم قائمة، أي الحاجة للتنظيم السياسي، للحزب الطبقي الواعي المنظم للصفوف، لم تفلح محاولة هيئة أركان بلا جنود في فرنسا ولن تفلح الآن حتى، فالتنظيم السياسي ما زال مطلوباً وما زال راهناً.
الحديث عن الثورة الشاملة الآن بات راهناً، ولكن كيف نبدأ به، وكيف نصيغه، من هنا تبدأ الأسئلة الكبرى.


الأربعاء، 2 مايو 2012

في إنطلاقة إتحاد الشباب، له وعنه


ملاحظة هامة: لا يعبر هذا المقال بأي شكل من الأشكال عن موقف رسمي للإتحاد وإنما يعبر عن وجهة نظري الشخصية.

في بداية التفكير و العمل على إعادة إحياء إتحاد الشباب الديمقراطي الأردني، إتصل بي رفيقان لطالما إشتركت وإياهم في مسيرة العمل السياسي العام، ولطالما إتفقنا، ولطاالما إختلفنا، إلى أن تبعثرنا كل في مشروعه، وبالنسبة لي بدأت بالتفرغ لإعطاء مساحة أوسع للبحث والكتابة ولا سيما بعد إستقالتي من الحزب الشيوعي إبان مؤتمره الأخير مباشرة، وفي مقابلة صحفية إبان تلك الإستقالة سؤلت إن كنت أنوي الإلتحاق في صفوف أي تنظيم آخر، في حينها قلت أني سأفعل ذلك تحت ظرف واحد فقط: مجموعة شبابية صادقة، تخوض تجربتها الخاصة، تقود نفسها بنفسها، هي العقل والذراع، الفكرة والممارسة، وهي الحركة والتنظيم. وهذا هو بالضبط إتحاد الشباب الديمقراطي في شكله اليوم، فقد شارك جميع أعضاء الإتحاد في حوارات موسعة ومطولة ومعمقة في أدبيات نظرية وفكرية وسياسية أودت في النهاية إلى أن يضع الإتحاد عقله وقلبه في صالح الفكرة المركزية المتمثلة في الصراع الطبقي كأساس، كانت هذه الحورات تخاض بعقل مفتوح على مهب الأفكار، كانت تخاض بمنطق جريء وصادم لأي متفرج من الخارج. حين قرر الإتحاد البدء يتنظيم نفسه كانت قيادته جماعية خالية من أمراض الموقع والمسمى، وحين قرر البدء بالفعل المباشر دعا إلى مهرجان الأول من أيار، وكان الإختيار لهذا التاريخ ولهذه الذكرى مقصوداً ومتعمداً، كانت رسالة واضحة أراد الإتحاد إيصالها إلى الجميع : "نحن ننطلق أساساً من التحليل الطبقي للمجتمع، وإنحيازنا واضح لحساب الفقراء ولحساب الطبقة العاملة التي ظلمت في معمعان الخلافات السياسية القشرية".

إنطلاقة إتحاد الشباب تزامنت مع إطلاق مجموعة من الإشاعات حوله، وهذا بالتأكيد متوقع في الوقت الذي تنطلق فيه مجموعة شبابية مستقلة وبكل جرأة تضع يدها على الجرح مباشرةً، وتحلل الواقع السياسي والإجتماعي إلى عناصره الأولية. ومن جملة هذه الإتهامات ما يلي:

وجود حالة من الإستقطابات لصالح جهة أخرى، إستقطاب لصالح تجمع الشيوعيين الأردنيين ، وإستقطاب لصالح حزب التحرر الوطني والإجتماعي ، وإستقطاب لصالح منتدى الفكر الإشتراكي، وإستقطاب لصالح الرابطة، ....إلخ.

في الحقيقة، من كل هذه الجهات يوجد شباب مشاركون في مشروع الإتحاد، ولكن "الغريب" في المسألة أنه لا يوجد حالات إستقطابية. ولكي نزيدكم من الشعر بيتاً، لم يقدم أياً من الجهات المذكورة أعلاه أية مساهمة ولو بحرف واحد في صياغة الأوراق الأساسية التي ناقشها الإتحاد، الصياغة الأساسية كاملة قام بها شباب الإتحاد أنفسهم، وهم أنفسهم من خاض الحوارات بعقل مفتوح لمدار الأفكار، وهم أنفسهم من قرر أين يكمن الإستراتيجي في هذه المرحلة وأين يكمن التكتيتكي، وهم أنفسهم من إبتكر شكلاً لتنظيم المجموعة، وهم أنفسهم من إبتكر أدوات للتنسيق والمتابعة. هذا ما كنت أعنيه في بداية الحديث،"الشباب هم العقل والذراع"، هذه هي بالضبط الكينونة المستقلة التي يعمل شباب الإتحاد على الحفاظ عليها، والتي يحافظ من خلالها على مسافة ثابتة من الجميع، بإختصار لأنه يمتلك موقفاً خاصاً، ويمتلك القدرة على إنتاج المواقف والتنظير لها وترجمتها إلى فعل كذلك.

الإشاعة الثانية تتمثل في موقف الإتحاد من القضية الفلسطينية والكيان الصهيوني، لا يختلف إثنان في الإتحاد على أن الكيان الصهيوني هو ذراع الإمبريالية والرأسمالية في المنطقة، أنه ذراع الإستعمار الإستيطاني المباشر وذراع الإستعمار غير المباشر كذلك. لم يصدر الإتحاد موقفاً رسمياً بهذا الخصوص، ولكنني أستطيع أن أتلمس موقفاً عاماً يرفض الكيان الصهيوني برمته، ويرى أولوية في تفتيته، ويقاطع المؤسسات المتصهينة التي ينتجها.

ما أود أن أقوله أن هذا الإتحاد إنطلق بإتجاه فكرة، ولن يلتفت أبداً إلى هوامشها الضيقة، لن يدخل في حالة من الجدل الأعمى والنقاش غير المثري، ولن يدخل في حالات المنافسة التي تشبه إلى حد كبير منطق الشركات في السوق المفتوح، نحن نجادل الفكرة ذاتها، وننبش في الواقع نفسه، هذا الإتحاد له مجموعة من المبادىء التي لا يساوم عليها، ولن يتساهل في تنفيذها والدفاع عنها.

في النهاية يجب أن أقول أن مهمة الإتحاد حالها حال المهمات الأخرى، مفتوحة على العديد من الإحتمالات، الفشل أو النجاح. بالنسبة لي، قررت أن أدفع بأسباب النجاح وليس العكس...

الجمعة، 23 مارس 2012

الرأسمالية وأوهام السوق الحر


تقدم الرأسمالية حرية النشاط الإقتصادي على أنها عنصر بشري هام، وتراهن على هذه الحرية على أنها "اليد الخفية" في بناء المجتمعات، هذا ما راهن عليه آدم سميث في أهم أدبيات الرأسمالية، لقد كان هذا الفكر وما زال فردياً بالكامل، فهو لا يطور القدرات الفردية بل يعزز النزعات الأنانية ويقضي على روح الإبداع الفردي في آن واحد.

في اليد الخفية لآدم سميث رسالة إلى البحث عن المصلحة الفردية، ومن هناك يتم بناء المجتمع ضمنياً وبطريقة "ساحرة"، الجميع في سياق بحثه عن مصلحته الخاصة، يجبر على التعامل الجيد مع الآخرين، ومن هنا تتعاظم أخلاقيات هذا المجتمع بطريقة قسرية وإجبارية تحت شعار المصلحة، والمصلحة فقط.في الرأسمالية تجلت حرية السوق نظرياً في آدم سميث وتحديداً في مبدأ "اليد الخفية"، ومفادها أن المجتمع يتطور ويتقدم إنطلاقاً من حرص الفرد على مصلحته الخاصة ،  وفجأة يكتشف أنه يقدم الفائدة للمجموع "نحن لا نتوقع الحصول على عشائنا بفضل نزعة الخير لدى اللحام أو الساقي أو الخباز، بل من إهتمامهم بمصلحتهم الخاصة". كان لهذه النظرية أن تسمى باليد القذرة بدلاً من الخفية، لقد تطورت لغة النظرية إلى أن أصبحت بالكامل لغة سلطة، وبات كل شيء متاحاً لتحقيق "المصلحة الخاصة" التي تصب في النهاية لصالح "المصلحة العامة" تحت عنوان إرضاء الزبون "customer satisfaction"!!، ومن هنا يمكن التعريج على منظومة الفساد التي تحارب اليوم بمعزل عن الصورة الكاملة والنهائية للنظام ككل، فتحقيق المصلحة الخاصة كهدف أساسي لا يمكن له أن يتقاطع بهذا النحو الأخلاقي اليوتوبي مع المصلحة العامة.

إذن بهذا المنحى يتهاوى الإستعراض الأول لهذه النظرية بقدرتها على بناء المجتمع ودفع شبكة العلاقات الإنسانية للحركة بطريقة ضمنية، ودون تأثير أو تدخل الذي تعيب به هذه النظرية، النظريات الأخرى.

ولكن لو توقفنا قليلاً عند التجربة التاريخية العملية لهذه النظرية، هل فعلاً تمكنت من بناء حياة تسير بقوة الدفع الذاتي دون تدخل، إذن ماذا عن حقبة الحرب والإستعمار التي خاضتها البرجوازية الأوروبية ضد شعوب العالم أجمع، وماذا عن أدوات الإدارة القمعية بحق العمال إبان الثورة الصناعية، وماذا عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وماذا عن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال الغزو العسكري كأحد أشكال غزو الأطراف، وماذا عن تدخل الدولة لإنقاذ النظام من الإنهيار في أزمتي 1929م و2008م بالتحديد. هل هذا هو الشكل الحر للإقتصاد الحر، وحرية النشاط الإقتصادي. إن االإستنتاج النهائي لذلك هو أن التدخل عامل أساسي في معادلات الإقتصاد، بقي أن نحدد نحن شكل هذا التدخل، هل هو تدخل بمنحى إحتكاري إستغلالي يتمثل في الرأسمالية كنظام، أو بمنحى عادل وناظم يتجلى في الإشتراكية كفكر وكتطبيق يحتاج لمزيد من البحث والتمحيص. وبموجب إلزامية هذا التدخل، تصبح هذه النظرية على حد تعبير المفكر سمير أمين "الفيروس الليبرالي"، نظرية خيالية وغير قابلة للتطبيق على النقيض مما تدعي وعلى النقيض مما تهاجم به النظريات الأخرى في طوبايتها.

إن المرد الإجتماعي لليد الخفية هو مزيد من النصب والإحتيال والجرائم والحروب والمجاعات والأوبئة وتدمير البيئة، كل ذلك لا يمكن له أن يكون في إنفصال عن الرغبة في الربح الدائم وترصيد المزيد من الأرباح، مهما حاولت المنظمات العالمية تجميل هذه الصورة وتزييف الحقائق، من خلال إتفاقيات حقوق الإنسان، وكيوتو،وسيداو وغيرها....

لا يقتصر تأثير اليد الخفية والرأسمالية بالضرورة على تفشي الجرائم والنصب والإحتيال، بل يطول النفس البشرية ليصيبها بالإكتئاب والإحباط، والعجز عن الشعور بالسعادة في الفعل المرغوب، الفعل المرغوب بما فيها العمل، فبما أن الربح هو الفكرة المركزية التي تدور باقي الأفكار في فلكها، فلا داعي هنا للحديث عن الميول والرغبة، ليصعد العرض والطلب كعامل أساسي ووحيد في الإختيار، فوحده القادر على تحديد نوع الفعل وشكله وتوقيته. ومن هنا أيضاً تسقط أوهام الرأسمالية في تطوير "الموارد البشرية". فهل من الممكن الحديث عن حرية الإقتصاد بمعزل عن حرية الإختيار والإبداع الحر للعاملين؟ في الحقيقة وفي ظل البنية الإقتصادية الرأسمالية يكمن العرض والطلب في المركز، وتصبح مسألة الحرية مسألة ثانوية. بمعنى أن خيارات البشر في العمل ووفقاً لآليات تقسيمه  لا بد لها أن تصطدم في أفق "النجاحات" الراهنة  "مستويات الدخل، فرص العمل،...إلخ". إن الطلب هو المحدد الأساسي للإختيار، فهو فرصة النجاة من واقع مرير قادم "البطالة، إنخفاض الدخل، غياب الضمانات الإجتماعية الأساسية،...إلخ". لذلك فإن  نهج العرض والطلب هو النقيض الصارخ للإبداع والإختيار الحر، هو القيد الأساسي لإنفجار رغبات الناس وترجمتها إلى قيمة حقيقية.

في البحث عن جدوى أية فكرة ذات علاقة بالمجتمع وعلاقات الشعوب والأمم، ينظر إلى مردودها المصلحي، ولصالح من. وفي الوقوف على حرية النشاط الإقتصادي، لا بد من الوقوف عند حدود هذا السؤال. لقد تحولت حرية النشاط الإقتصادي إلى أفكار وإلى أدبيات على يد الفئة المستفيدة من ذلك، البرجوازية الأوروبية بالدرجة الأولى.



في حرية النشاط الإقتصادي، هناك العديد من الملاحظات على النقيض من الفكرة وتطبيقها، ومنها:

·       وهم النظرية على المستوى التطبيقي، في زاوية غياب التدخل تحديداً. وهنا أتحدث عن النظام الإقتصادي الإنساني في ظل ظروف الذاتي والموضوعي المتاحة في عصرنا، أما في الحديث عن نمط الحياة الفوضوي الأكثر سعادة فله ظروف إجتماعية تتعلق بالوعي الجمعي تحديداً، تجعل منه أملاً فيما هو لاحق.

·       الإفرازات الإجتماعية المتمثلة في الفقر والجوع والجرائم والنصب والإحتيال والإحباط والإكتئاب، هي الناتج الطبيعي لليد الخفية والرأسمالية.

·       سقوط الميول والرغبة أمام سلطة العرض والطلب.

·       إنحسار الفئة المستفيدة من أفكار حرية النشاط الإقتصادي في الفئة ذاتها، الطبقة المحتكرة للثروة وأنصارها الكمبرادوريين.

هنا في الحديث عن حرية الفعل الإقتصادي، لا مكان للحياد إما أن تكون مع الرأسمالية العالمية وإما أن تكون ضدها، نشر الكاتب يوهان نوربيرج كتاباً بعنوان "دفاعاً عن الرأسمالية"، حاول أن يعرض فيه مجموعة من الدلائل على تراجع حدة الفقر في ظل الرأسمالية وليس العكس، إنطلق من مجموعة من المشاهدات في الهند والصين ودول المنظومة الإشتراكية السابقة، وأن حال هذه الشعوب تحسن في ظل الرأسمالية العالمية، إعتمد على مجموعة من الإحصائيات ذات العلاقة بنسبة الوفيات بين حديثي الولادة، وعدد السكان، ومتوسط عمر الفرد، وإرتفاع معدل الدخل، ونسب الأمية.

ولكن هل يمكن الإستناد إلى هكذا أرقام، مع التحفظ على العديد من النسب التي يروج لها، في الوصول إلى إستنتاجات مفادها تراجع الفقر في العالم وتحسن أحوال الشعوب (دفاعاً عن الرأسمالية، يوهان نوربيرج) ، هنا لا بد من لفت الإنتباه إلى المسائل التالية:

·       إن المقارنة بين الخمسينيات والسبعينيات من جهة والتسعينيات والألفية الثالثة من جهة أخرى، هي بحق مقارنة مجحفة ومضللة، فنحن نتحدث هنا عن مرحلتين يفصل بينهما إنفجار كبير للثورة التكنولوجية، هذا الإنفجار الذي كان لا بد له أن يقدم الشيء الكثير في تطور حياة الشعوب وتسهيلها، ولكنه تحول في أماكن عديدة إلى أدوات إستلابية للناس وإستخباراتية عليها. هذا التطور الذي لا بد له بالضرورة أن يسحب معه تطوراً هائلاً في الطب والصناعات الدوائية، لم يتناسق مع درجة الإزدياد في عمر الفرد أو نسبة الوفيات من حديثي الولادة.

·       لا يجوز أبداً، وحتى من روح أدبيات الرأسمالية ذاتها، أن يتم مقارنة متوسط دخل الفرد مع تجميد التضخم كعامل أساسي، فهنا لا يمكن الحديث عن إزدياد خطي في متوسط الدخل يرافقه منحنى خطي للزمن.

·       إن الثورة التكنولوجية لم تحد من الفقر بما يتوازى مع مستواها كثورة من جانب، ومن الجانب الآخر خلقت مجموعة من المستلبين، الذين أطلق عليهم الدكتور هشام غصيب مسمى "البروليتاريا الذهنية"، هذه البروليتاريا الذهنية تضم صفوفاً عريضة من العاملين الموتورين، والفقراء، وذوي الدخل المحدود، والأغنياء غنىَ مؤقت مهدد بشكل دائم، مستلبة لا تشعر بالسعادة، مكتئبة، خائفة، ومترددة، وتعاني حالات إنتحار عديدة على أية حال، مدينة بشكل دائم، تخشى المستقبل والماضي كذلك، وتتمسك في الحاضر على أنه أفضل صيغ السيء، أسيرة للعرض والطلب، وباتت مستعدة للإستغناء الكامل عن رغباتها وطموحاتها، وأبقت على حلم واحد لا يتحقق أبداً، أن تصبح يوماً ما غنية. في طل هذا الإستلاب ليس من الغرابة أن تروج الدراسات الأمريكية نفسها كالتالي "72% من العائلات الفقيرة في أميركا تمتلك سيارة أو أكثر، 50% تمنها تمتلك مكيفا هوائياً، و20% منها تمتلك غسالة صحون،،،، إلى آخره المشاهد التضليلية.

·       لعبة الرأسمالية العالمية تكمن في الدراسات والأرقام، التي تنتجها هي نفسها، وتضيء على ما تشاء منها: نسب النمو، التضخم، الوفيات، المشاريع "الإنمائية"، ....إلخ. الأرقام بحر من الدلائل مع وضد، ولكن الواقع لا يمكن أن يقاس هكذا، ففيه العديد من الظواهر العابرة للأرقام الزائفة والملطفة، فيه الفقراء، والمرضى العاجزين عن السداد، وفيه المرضى المخدوعين من قبل شركات التأمين، وفيه أناس بلا مأوى، وفيه ماراثون القروض السكنية، إنها بحق النظرية الإقتصادية الخيالية. 

عن أي تراجع لحدة الفقر نتحدث، إن كانت الباكستان صاحبة القنبلة النووية، توزع الطاقة الكهربائية، ليتم إيقافها عن العديد من المدن بمعدل 10 ساعات يومياً؟ ما نقوله هنا أن الحداثة خلقت أبراجاً عالية، وتقنيات حديثة، وتواصلاً إجتماعياً تقنياً، ومولات واسعة، وماركات كثيرة لغايات مجتمع الإستعراض، ولكنها أبداً لم تخلق السعادة البشرية، خلقت طبقة فقيرة في أشد حالات العوز، تغيب عنها الدولة أو المركز في الرعاية الإجتماعية، وطبقة وسطى مترددة وخائفة وموتورة و مستعرضة، وطبقة غنية غير آبهة. هذا هو النتاج الإجتماعي العيني والملموس للمجتمع الرأسمالي.

يتناول كتاب نوربيرج عرضاً للتجربة الصينية، ويدعم الإنفتاح الإقتصادي فيها الذي بدأ في عهد دينغ بنغ عام 1978، وينظر إليه على أنه مؤسس لمرحلة جديدة تتجاوز الديكتاتوري المركزية السابقة التي كانت تطالب المزارعين بتسليم إنتاجهم، ويعتبر ذلك مؤثراً على التقليل من إنتاج المحاصيل. ولكن هل حقاً تحسنت الأحوال في الصين بعد هذه الحقبة؟ أشار بوركت في كتاب "الصين والإشتراكية" إلى أن الريفيين الصييين اليوم يبيعون دمهم للحصول على المال!

فيما يخص الزراعة كإحدى أهم قطاعات الإنتاج، فالخصخصة تعني المزيد من الحلقات الوسطى التي تفصل بين المزارع "المنتج الأول"، والمستهلك الأخير، والتي تعطيها الرأسمالية إسماً مهذباً "شبكات التوزيع"، إن أي خلل في إحدى هذه الحلقات "إرتفاع تكاليف عملها، رغبتها في مزيد من الأرباح ومن خلال الإتفاق مع المنافسين"، ستسحب معها المزيد الرغبة المشابهة في الحلقات اللاحقة، الأمر الذي يسدد الضربات المتلاحقة للمستهلك الأخير من جهة، ويعطي إحدى المبررات لأكذوبة التضخم في النظام الرأسمالي.

وينتقد الكاتب كذلك تجربة الحماية الإغلاقية التي مارستها الهند على الإستيراد والتصدير، ويعتبر أن هذه الخطوة بتأثيراتها على الإستثمار، وبعوائق البيروقراطية، قد أثرت على الإقتصاد الهندي، ويتناسى تماماً أن نقطة الإنطلاق لإستقلال الهند عملياً بدأت من هذه النقطة، بدأت من مسيرة الملح ودعوة غاندي للشعب الهندي أن يجتمع ويحرق ملابسه التي تصنع في بريطانيا وينهب قطنها من الهند، وهذا هو حال الإستعمار يخرج من النافذة حاملاً سلاحه ليدخل من الباب عارضاً شرائح البوربوينت لمنتجاته، وبأمر من صندوق النقد الدولي أن لا يتنج مثيلاً لها داخلياً.

يجري الترويج إلى أن الغرب أصبح "العالم الغني" لأن فيه نظاماً إقتصادياً حراً، جميل! إذن لو إقتدت شعوب الأطراف المقهورة بذلك، وتخلت عن حريتها في الإستهلاك، لتصبح حرة في الإنتاج، هل سيستمر النظام الرأسمالي العالمي؟ بالتأكيد لا، فمعنى الحرية في الإنتاج والرغبة فيها وتأطيرها، وذلك الأهم بداية، بنظام سياسي يعمل على ذلك، يعنى إختناق المراكز العالمية المصنعة من غياب الأسواق، وعندها سيتضح فشل هذا النظام لأن يكون عالمياً بحق، فهو لا يستطيع الحياة في منظومة عالمية إلا إذا كانت إحتكارية.

أما أكثر حجج الرأسمالية إثارة للضحك والسخرية، أن السوق الحر يقلل من نسب الفساد. إن الفساد ظاهرة أصيلة ملازمة للنظام الرأسمالي، فعلاوة على مجموعة القوانين التي تنتجها السلطة ذاتها لصالح الفئات الإحتكارية، تقف الدولة في موقع الجابي والناهب لأموال الناس، دون عمل مقابل، دون رعاية إجتماعية، ودون حتى حماية إقتصادية. إن ما تعيب به الرأسمالية على الإشتراكية، تمارسه دون مقابل ودون ضمانات.  



يقول الرأسماليون إن الإقتصاد ليس "لعبة مجموع الصفر"، لكنه في الحقيقة لعبة الأرقام الموجبة للطبقة المحتكرة والسالبة للفقيرة والصفر للمستلبة. وتفاوت النسب داخل هذه اللعبة هو الذي سيخلق الإنفجار الكبير القادم، قريباً فعلاً هذه المرة...

الثلاثاء، 7 فبراير 2012

ماذا لو نجح المعلمون؟

                                                                                                                                                       محمد فرج
لا يخفى على أحد الصعود الكبير في إحتجاجات الحركات العمالية على مدار السنوات الستة الماضية في الأردن ، وعندما نقول عمالية فهذا ليس مختصرُ أبداً على أنماط  محددة من العمل، فالعامل هو كل من يقدم جهداً ما عضلياَ كان أم ذهنياَ لقاء أجر، وهذه الصيغة تنطبق على أبناء الطبقتين الفقيرة والوسطى على حد سواء.يتذكر الجميع إحتججاات عمال المياومة، وعمال الكهرباء، وعمال الموانئ، وعمال البوتاس، وعمال ملح الصافي، والأطباء، والإتصالات، والمعلمين، .....إلخ والقائمة تطول.

في حراك المعلمين وعمال المياومة على وجه التحديد، كان هناك علامة إيجابية فارقة، وهي الإستمرارية في التصعيد وضبط إيقاعه في آن واحد، هذا يعني القدرة على إختيار الفعل المناسب ضمن شروط وظروف الذاتي والموضوعي، والميل الدائم إلى التصعيد ، والرد الدائم على التهم الجاهزة من قبل السلطة مثل محاولات التخريب، وتعطيل مصالح الآخرين، وتراجع الإنتاج. فإضراب الأطباء على سبيل المثال خطا بثبات في البداية، ولكنه تعرض لاحقاً إلى إنتكاسات ذات صلة بالتحشيد والهجوم الإعلامي المضاد الذي حاول تأليب الفئات الإجتماعية الأخرى عليهم من خلال تشويه صورة ضمائرهم ( تجاهل الحالات الطارئة على سبيل المثال، مع أن ذلك لم يحصل أبداً).
والآن، المعلمون قد يكونوا معرضين لأسئلة وأفخاخ من ذات الطابع، فبعد مرور يومين على إعلان المعلمين الإضراب عن العمل، ستبدأ السلطة المتهربة من منح هذه الفئة الإجتماعية المهمة حقها، ستبدأ في تأليب الآخرين عليهم، وستحاول عرض مشهد الإضراب وكأنه معطل للعملية التعليمية، وكأنه المسبب لحرمان الطلبة من التعليم،  وقد تعامل الإعلام الرسمي مع هذه الموجة بما يتناسق مع مزاج ومصالح السلطة، فكانت العناوين العريضة متمثلة في "رغبة الأهالي للجوء للقضاء"، "عودة الطلاب إلى منازلهم أو تسكعهم في الشوارع!"، كل ذلك سيحاولون تحميل عبئه للمعلمين، ولكن هذه الحيلة معروفة تاريخياً، هي الحيلة التي تعلمتها الأنظمة العربية على يد الأنظمة الإستعمارية العالمية وعلى يد الأنظمة البرجوازية الأوروبية، ترهيب الشعوب من خطر النتائج المؤقتة التي بطبيعة الحال ستجلب عقبها النتائج الحقيقية المطلوبة، دائماً تحاول الأنظمة إخافة الشعوب من فوضى قادمة تعكر صفو رتابة النمط السيء للحياة، وتعكر صفو "الأمن والأمان" ليصبج الجوع أكثر أماناً ليس إلا!

فليتوقف التعليم شهر إضافي من الزمان ليجلب وراءه معلمين واثقين غير محبطين ومطمئنين لحياتهم وبالتالي قادرين على منح المزيد للأجيال القادمة. نعم، لحظة مجمدة من التاريخ ويليها الخير كله، فلتكن كذلك أو لا تكون!
من أساء للعملية التعليمية هي السلطة، عندما أدخلت كل زناة الليل ليعبثوا ويتلاعبوا في ثقافتنا ومناهجنا وتعليمنا، لا لشيء سوى لضمان جيل إضافي من التبعية وإنعدام القدرة الذاتية، والمعلمون اليوم هم من يحاول تصحيح كل ذلك من خلال عقد إجتماعي جديد في حزمة واحدة، الرواتب والمناهج والحقوق. المعلمون اليوم يخوضون معركة متعددة الجبهات من تعنت السلطة في تلبية مطالبهم المحقة إلى التجييش الإعلامي ضدهم إلى التلاعب بمشاعر الناس خوفاً من "الفوضى" ، وفي هذه الحالة التجييش المضاد والإيجابي من قبل المعلمين مهم، هذه هي بالضبط المرحلة التي يطالب بها مجموع كبير بتغيير جذري حاسم للعملية التربوية برمتها وتقابله السلطة التي تحاول اللعب على الجزئيات التفصيلية لتمويه الحقائق واللعب على الوقت والنتائج المؤقتة.

سيخرج المسؤولون من كل جهة يطالبون المعلمين بإيقاف الإضراب كي لا "يظلم" الطلبة و"يحرموا" من حقهم في التعليم. ولكن الظلم الحقيقي، والظلم الإستراتيجي طويل الأمد هو من إنتاج السلطة وليس من إنتاج المعلمين، تأتّى هذا الظلم من خلال المناهج وحرمان المعلمين والطلبة كذلك من حقوقهم التي تحتاج إلى تخصيص مالي قد يكون الأهم في البلاد. إن "الظلم" المؤقت هو بوابة العدالة الشامة والجذرية بمنحى راديكالي خالص، المعلمون بإضرابهم لا يبحثون عن نتائج اليوم والغد القريب، هم يبحثون عن الحلول الشاملة والنهائية، ولذلك تحمُّل "الفوضى" المؤقتة هو في صالح الطلبة والمعلمين على حد سواء، ولكنه ليس في صالح السلطة بطبيعة الحال.
في إضراب الأطباء، سار المجموع بخطىً واسعة و متسارعة، وكان عنصر الصبر حاضراً، كان المطلوب هو صبر الساعة الأخيرة، الأهم والأخطر والأكثر جدوى، الضربة الأخيرة لجدران الخزان لتحمل معها نتائج الضربات السابقة، والتي ستوصل التناقضات إلى قمة التعقيد وهي بالضرورة النقطة الأقرب إلى الحل، وبالتالي تصعيد المعلمين أكثر وأكثر في إضرابهم مع الإجراءات التجييشية المطلوبة هو الحل.
نجاح إضراب المعلمين، لا يعني إنجازاً للمعلمين والطلبة فقط، هو إنجازُ للطبقة العاملة الأردنية بأكملها، هذا النجاح سيفتح الباب أمام باقي فئات الإحتجاج الإجتماعي لتنظم نفسها أكثر وتؤمن أكثر بجدوى العمل الجماعي وقدرته على إنتزاع حقوق الناس سياسياً وإقصادياً وإجتماعياً، هذا النجاح سيرفع منسوب الثقة عند الجميع أن الأساس في هو الطبقة العاملة، هي التي تخطط وهي التي تقرر...

الأحد، 5 فبراير 2012

لا حاجة للبوند في الأردن


لا حاجة للبوند في الأردن..                                                          محمد فرج

البوند هي منظمة في روسيا ضمت العديد من العمال اليهود، وتم التنسيق معها للإنضمام إلى صفوف الحزب الإشتراكي الديمقراطي في روسيا، وطالبت لاحقاً بفيدرالية تنظيمية خاصة بها بصفتها الممثل الأساسي لليهود في روسيا، أي أنها تعبر عن حزب قومي يهودي له خصوصيته التنظيمية في حزب أبى أن يسمي نفسه بالحزب الروسي، بل إستخدم "في روسيا" بديلاً عن ذلك.

كانت روسيا حاضنة لقوميات عديدة، أكثريات وأقليات، منها من كان محسوباً على النظام القيصري، ومنها من كان محسوباً على صفوف الفقراء والمظلومين. لقد كان سؤال القوميات المتعددة هو الأهم والأكبر في التحضير لثورة عام 1917م، ولإنجاحها، لأن الإجابة الخاطئة عنه كانت تعني بالضرورة حرف مسار التطور بالكامل.

كان موقف فلاديمير لينين متماسكاً وواضحاً بهذا الخصوص: "لا مجال للتراجع عن توحيد هذه الهويات في هوية واحدة: أنهم جميعاً فقراء"، ومن هنا بدأ العمل في مختلف مناطق روسيا على هذا الأساس، ورفض طلب البوند في فيدرالية تنظيمية، وإستمر العمل لكسب العمال اليهود الفقراء والمضطهدين في صفوف الحزب، وتوحيدهم مع باقي العمال من مختلف المناطق، وتم العمل على تقديم هوية الفقراء على أي شيء آخر، ولم تقدم أية تنازلات أو قرابين براغماتية في ذلك السياق، ولم يتم إنتاج خطاب يهودي خاص بالعمال اليهود لكسبهم في صفوف الثورة، فكل ذلك كان في نظر البؤرة المنظرة للحزب إنتصارات مؤقتة تجلب عقبها كوارث وخيمة.

 إعتبر لينين أن دك الملكية هي الخطوة الأولى لحل المسألة القومية في روسيا، وأن الملكية نفسها هي من تحاول دائماً إذكاء صراعات اللغة والهوية والثقافة و حتى الوطن أحياناً، إما لكي تحمي نفسها من عدو خارج حدودها، أو لكي تبقي نفسها منصورة بفئة على حساب غيرها داخل حدودها.

وعلى صعيد آخر، كانت المسألة البولونية منذ أواسط القرن التاسع عشر إحدى المسائل الحساسة، وتعددت المواقف المتشكلة تجاهها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. لم يكتف كارل ماركس آنذاك بتدعيم وجهة نظره القائلة بإستقلال بولونيا، بل ألحقها بتوضيحات كثيرة للتمييز بين موقفه وموقف البرجوازية الديمقراطية التي تؤيد إستقلال بولونيا كذلك.

عادت بولونيا لاحقاً لتكون إحدى الأسئلة التي واجهها الحزب الإشتراكي الديمقراطي في روسيا، عادت ضمن حزمة كاملة عنوانها الأساسي "حق الأمم في تقرير المصير"،  وكانت الإجابة عن ذلك واضحة جداً: إن هناك ملايين الأفكار تسبح في مدارات العقل البشري، والمواقفيون بالعادة ينتخبون منها الأهم والأقرب للسعادة البشرية لتكون بوصلة الأخرى ومركزها، وبذلك تخضع كل الأفكار في اللحظات التاريخية الحاسمة لحسابها. فكما كانت مصلحة الشعوب الثائرة في روسيا أن تضع حسابات الهوية خلفها، كانت مصالح البولونيين  في الإستقلال كذلك في أواسط القرن التاسع عشر وعلى النقيض من ذلك بعد الثورة الروسية.

يقف الحراك الشعبي الأردني أمام سؤال من ذات الطابع، إنه سؤال الهويات الفرعية التي أنشأها الإستعمار والإحتلال الصهيوني لضفة الأردن الغربية وعززها بتصدير أنماط إجتماعية وإقتصادية وسياسية على حد سواء. التحدي الأكبر هو تفتيت كل شيء قائم وبناء الجديد في الإقتصاد والإجتماع والسياسة، هنا بالضبط تظهر أهمية الخطاب السياسي للتعبير عن حاجات الناس في حقيقتها وفي ذاتها، فئات مفقرة في أطراف العاصمة والمخيمات والمحافظات، وطبقة وسطى مكتئبة ومحبطة في وسط ثقافة القطاع الخاص في مركز العاصمة.

هناك فرصة لمنع ظهور البوند في الأردن، وهناك فرصة لجعله حزب كبير، والكلمة الحسم الآن لقادة الخطاب السياسي، إما أن يختاروا الحل الأسهل ويخلقوا بونداً جديداً، وإما أن يبحثوا في ممكنات الواقع أكثر، ويتمترسوا عند مواقف مبدئية لا تراجع عنها يحمل الواقع إمكانيات تحقيقها.

الإدانة اليوم تتوجه إلى قادة الخطاب السياسي وليس إلى الناس والشعوب الثائرة، على هذا الخطاب أن يقتنص فرصة تاريخية غير حالمة في توحيد صفوف الفقراء، من المخيم والقرية على حد سواء، جميعهم معاً ضد من خصخص ثروات البلاد وإنتفع من قانون الإستثمار الجديد وحقية التصحيح الإقتصادي والتكيف الهيكلي وإنهيار الدولة و من مواقع متقدمة في مؤسسات الدولة المتروكة إدارتها بالكامل للمنظمات الأمريكية بالدرجة الأولى.

ألم يكن من الأسهل للينين "الحالم" أن يضمن خطاباً خاصاً باليهود في أدبيات الحزب قبل الثورة؟ ذلك بالضبط ما رفضه حينئذ وأعلن عن أهمية تخلي اليهودي عن يهوديته في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة.

في الأردن، النجاح برسم الخطاب السياسي الأوضح والأقدر والأكثر قدرة على إعطاء النتائج الحقيقية، وهذا الخطاب لا بد له أن يخرج من أوهام الحلول الأسرع والعواقب الأوخم ومن إصطلاحات "يهود الداخل" و "أصحاب الحقوق المنقوصة" على حد سواء.

قد تكون اللغة والقومية والثقافة عناصر إنتماء، ولكنها لا توضع أبداً في معارضة العمل على تحقيق السعادة البشرية للمجموع...


الخميس، 26 يناير 2012

الأردن، هل من طريق ثالث مبكر؟

مر الآن عام كامل على إنطلاقة الحراك الشعبي في الأردن، والذي مر بدوره بمراحل هبوط وصعود، صعود لم تصل نقاطه القصوى إلى حد الطفرة بعد أو بمعنى آخر إلى التغيير الكيفي الناشئ عن تراكمات كمية. والآن بات من الضروري مراجعة هذه المرحلة التي تعد حالة إستثنائية في الأردن في حقبة ما بعد الأحكام العرفية وإعلان "الديمقراطية".

تمثلت "المعارضة" في الأردن خلال العام المنصرم بمجموعة من التيارات المختلفة، من معارضة الإخوان إلىى معارضة التيارات اليسارية والقومية إلى التيارات الإصلاحية الليبرالية وإلى حراك المحافظات كذلك، وإختلف وزن كل تيار عن الآخر وحضوره ومدى تأثيره وهدفه ومجموعة الفئات المعبرة عنه.

إحدى أكثر الخطابات المعارضة رواجاً –نسبياً- والتي لا بد من الوقوف عندها كجزء من هذه المراجعة: خطاب الحركة الإسلامية وخطاب معارضة المحافظات.

خطاب الحركة الإسلامية

يعتمد الخط السياسي العام للحركة على التفاوض بدرجة أولى وأساسية، ومن هنا كانت تصريحات الحركة في لقاءها مع رئيس الوزراء تدور في فلك تحديد سقف الإحتجاج بإصلاح النظام ومحاسبة الفاسدين فقط، وتغليف هذا الإحتجاج بالطابع السلمي وبشكل كامل. يستخدم الإسلاميون مجموعة من الأوراق لتحسين شروطهم التفاوضية مع النظام، وما يجري على الأرض ليس بذي صلة بالظاهرة نفسها، فخروج الإسلاميين في جمعة "طفح الكيل" كان ظاهرة صورية تختلف تماماً عما جرى في الجمعة التالية لها، من إستعراض القوة أمام الجامع الحسيني إلى التمثيل السياسي الخطابي البسيط في ساحة النخيل، هذا المسار يعبر تماماً عن نهج الإسلاميين في التعاطي مع النظام، وتغيير لون الأوراق التفاوضية لتحصيل أكبر عدد ممكن من المكتسبات للحركة، وتتداخل هذه الأوراق وتتقاطع مع قناة التنسيق المفتوحة مع واشنطن الني قد تحتمل صيغاً أكثر فائدة للحركة، وبإنتظار نتائج ما يجري في سوريا كذلك.

من هنا، نحن أمام تيار مفاوض ومتربص و يمتلك أفيوناً رخيص الثمن، غير معني بتفكيك البنية الإقتصادية لصالح الطبقة الفقيرة، وإنما يشكل إمتداداً للنهج الإقتصادي الرأسمالي ولكن بحماية ذهنية مرتبطة بالنص الديني. وهذا التيار مستند بالكامل على إنهاء "جولات الصراع" من خلال صفقة، ولهذه الصفقة شروط موضوعية وذاتية تعيها الحركة جيداَ، ومنها الإستمرار في النزول إلى الشارع، ولكن على إيقاع يتناغم مع مدى تقدم أو تراجع المفاوضات ، مع النظام نفسه ومع واشنطن في ذات الوقت، فواشنطن لا تمانع بقدوم الإسلاميين طالما أنهم ملتزمون بخدمة الإستثمار الخارجي ولعب ذات الدور الإقتصادي والسياسي والإبقاء على صفاء العلاقة مع الكيان الصهيوني، والإسلاميون لا يمانعون أن يأتوا بمباركة ومساعدة أمريكية طالما أنهم لا يرغبون أساساً في تغيير المفاصل الأساسية للمجتمع: الإقتصاد والسياسة.

خطاب معارضة المحافظات

يجري الحديث عن تهميش لأبناء المحافظات مع غياب القطاع العام، وإنعدام التأسيس لخدمات إجتماعية عامة فيها. لا بد هنا من الوقوف عند الملاحظات التالية:

·       إذا أردنا إختصار "التهميش" في فقدان الوظائف بسبب غياب القطاع العام، فإننا نلاحظ أن شواغر تركة القطاع العام والجيش إلى الآن هي من نصيب أبناء المحافظات، عندها يصبح أبناء العاصمة هم المهمشون وليس العكس! ولكن حتى هذه الصيغة غير قابلة للحياة في إطار مشروع عابر للتقسيمات الفرعية.

 والسبب في هذا الإفقار الجماعي وليس "التهميش لفئة محددة"، هو لبرلة السوق والسياسة على حد سواء، وقادة هذا المشروع هم من فئات متعددة تنتمي إلى عرق واحد وهو "الطبقة" و "الربح"!! وهذه الطبقة إرتأت أن الطريق الأسلم لزيادة أرباحها هو فتح مكاتب الإستثمار الأجنبي والمستشفيات والمدارس الخاصة وشركات التأمين، إلخ.... في العاصمة والإستفادة من نسب أرباح المصانع في المناطق الصناعية المختلفة وتجاهل أي شيء آخر (التأسيس لخدمات إجتماعية في المحافظات على سبيل المثال).

·       المسألة ليست في غياب الشواغر والخدمات، بل تكمن في غياب الدولة كجهاز إقتصادي إجتماعي ناظم لحياة الناس، وعلى كل حال فإن الخدمات المتوافرة في العاصمة على الصعيدين الصحي والتعليمي على سبيل المثال هي بالأغلب خدمات خاصة "يقودها القطاع الخاص" كما أوردنا أعلاه، وهذه لا تشكل أي ضمانة إجتماعية، ولا تقدم تفضيلاً للسكان القريبين منها جغرافياً على حساب غيرهم.

 في ظل هذه الظروف يتسلل خطاب سياسي ليحمل حراك المحافظات في المسار التالي:

·       أن أبناء المحافظات "المهمشين دون غيرهم" تم إقصاؤهم، بسبب غياب القطاع العام، والسبب في هذا الغياب هو توسع القطاع الخاص، والسبب في هذا التوسع هو فئة كمبرادورية فلسطينية حصراً ( وليس قراراً سياسياً إتخذته الطبقة آنفة الذكر). ومن هنا يبدأ التحشيد ضد أسماء محددة ومن أصول محددة دون غيرها بوصفها المسبب الأساسي لكوارث الأردن الإقتصادية، ويتم حرف مسار الصراع بذلك من حرب ضد المنظومة بأكملها إلى حرب على الأشخاص.

·       أن الوجود الديمغرافي الفلسطيني يشكل تهديداً للهوية الوطنية الأردنية، ومن هنا وجبت دسترة أو قوننة فك الإرتباط ( والسؤال هنا: ماذا لو لم تكن الضفة الغربية عام 1967 جزءاً تابعاً على المستوى الإداري للأردن، عندها ماذا سيكون الحديث عن الهوية الوطنية الأردنية ؟)

·       أن التمثيل السياسي لا بد أن يتم على أرضية تغليب نسب المحافظات من خلال القانون ومن خلال تعريف الأردني مجدداً "من يحق له الإنتخاب".

وفي هذا السياق، يحاول هذا الشكل من الخطاب السياسي "الواقعي والمتمكن من التفاصيل"، أن يجعل من العداءين حزمة واحدة، عداء للفلسطينيين في الأردن، وعداء للنظام!

يحاول العاملون على هذا الخطاب ترويجه من خلال "واقعيته"، ولكن ماذا لو غاب هؤلاء "المنظرون" عن مجمل هذا الخطاب؟ ألن يسير الواقع في ذات الصيرورة أو لربما في صورة أفضل؟ إذن ما هو دورهم في تغيير الواقع وحرف مسار الصيرورة التاريخية ذاتها؟ وهل تعني الحلول الواقعية فهم الواقع دون تغييره؟ والإكتفاء بالنظر إلى التناقضات الثانوية وهي تحل تلقائيا وذاتيا بغض النظر عن النتائج؟ من إذن سيقدم الحلول "الصعبة" لتصبح واقعاَ في نهاية المطاف؟ وهل كان من الصعب "التنظير" لعداء الإخوان بتوصيفهم التيار السياسي للكتلة الفلسطينية، و"التنظير" لعداء حراك المحافظات بتوصيفه عصبوياً؟  
إن إستفزاز التناقضات الثانوية أمر سهل، لا يحتاج إلى مثقف ولا بوصلة سياسية متمكنة، الواقع وبدون مبالغة قادر على حمل خطاب جامع وعلى النقيض من ذلك تماماً، يوحد صفوف الطبقة الفقيرة، ويخرج بعضاً من أبناء المحافظات من أوهام الخطر الفلسطيني، و بعضاً من أبناء "الطرف الآخر!!" من أوهام خطاب الحقوق المنقوصة.

في الأردن، كما هو الحال في العديد من البلدان العربية، طريق ثالث بات لازماً،  يحدد هدفه الإستراتيجي بالإستناد إلى التناقضات الأساسية "الفقراء أمام المحتكرين للثروة، هكذا فقط"، ولا يضع الخاص في مواجهة العام إنطلاقاً من "فن قراءة الممكن"، تلك هي المهمة الحقيقية الراهنة للمثقفين والسياسيين العرب.

في الأردن يتقدم خطاب إخواني غير راغب وغير هادف البتة إلى تغيير النمط الإقتصادي القائم، والذي يشكل العقدة الأساسية لمجمل المصائب الإجتماعية، وبالتوازي يتقدم خظاب سياسي عصبوي، يدعو إلى إعادة إنتاج "الفساد" وتدويره وحصره لصالح فئة دون غيرها.

قد يقول قائل: ما هو الطريق الثالث إذن؟ هل هو ثالث ضمن نطاق المعارضة ذاتها؟ أم ثالث مع الأخذ بعين الإعتبار طريق النظام الحالي؟ إن معارضة الأخوان، ومعارضة "فك الإرتباط"، ومعارضة "المواطنة والحقوق المنقوصة"، والمعارضة الليبرالية المخملية الناعمة، جميعها معارضات مشوهة، لذلك فهي تعبر عن طريق واحد وهو المعارضة غير المنجزة، لذلك نحن بحاجة طريق ثالث بعيداً عنها وبعيداً عن النظام.

المطلوب اليوم هو شق طريق ثالث يمتلك تصوراً واضحاُ عن توزيع جديد لموارد الثروة، يطرح أنماطاً جديدة لإستغلالها، يبني مجموعة من التحالفات السياسية والإقتصادية الجريئة التي تنهي علاقات التبعية للمركز المصنع، ويزج بنفسه مباشرة في معركة سياسية تناحرية مع العدو الصهيوني وأمريكا،  وينهض بالنمط الإجتماعي العلماني بالدرجة الأولى القادر على تجاوز كل أشكال العصبوية من الدين إلى العشيرة إلى الإقليم ..... هذا هو الطريق الثالث الذي ما زال غائباً على الرغم من ممكنات الواقع في حمله!