الخميس، 26 يناير 2012

الأردن، هل من طريق ثالث مبكر؟

مر الآن عام كامل على إنطلاقة الحراك الشعبي في الأردن، والذي مر بدوره بمراحل هبوط وصعود، صعود لم تصل نقاطه القصوى إلى حد الطفرة بعد أو بمعنى آخر إلى التغيير الكيفي الناشئ عن تراكمات كمية. والآن بات من الضروري مراجعة هذه المرحلة التي تعد حالة إستثنائية في الأردن في حقبة ما بعد الأحكام العرفية وإعلان "الديمقراطية".

تمثلت "المعارضة" في الأردن خلال العام المنصرم بمجموعة من التيارات المختلفة، من معارضة الإخوان إلىى معارضة التيارات اليسارية والقومية إلى التيارات الإصلاحية الليبرالية وإلى حراك المحافظات كذلك، وإختلف وزن كل تيار عن الآخر وحضوره ومدى تأثيره وهدفه ومجموعة الفئات المعبرة عنه.

إحدى أكثر الخطابات المعارضة رواجاً –نسبياً- والتي لا بد من الوقوف عندها كجزء من هذه المراجعة: خطاب الحركة الإسلامية وخطاب معارضة المحافظات.

خطاب الحركة الإسلامية

يعتمد الخط السياسي العام للحركة على التفاوض بدرجة أولى وأساسية، ومن هنا كانت تصريحات الحركة في لقاءها مع رئيس الوزراء تدور في فلك تحديد سقف الإحتجاج بإصلاح النظام ومحاسبة الفاسدين فقط، وتغليف هذا الإحتجاج بالطابع السلمي وبشكل كامل. يستخدم الإسلاميون مجموعة من الأوراق لتحسين شروطهم التفاوضية مع النظام، وما يجري على الأرض ليس بذي صلة بالظاهرة نفسها، فخروج الإسلاميين في جمعة "طفح الكيل" كان ظاهرة صورية تختلف تماماً عما جرى في الجمعة التالية لها، من إستعراض القوة أمام الجامع الحسيني إلى التمثيل السياسي الخطابي البسيط في ساحة النخيل، هذا المسار يعبر تماماً عن نهج الإسلاميين في التعاطي مع النظام، وتغيير لون الأوراق التفاوضية لتحصيل أكبر عدد ممكن من المكتسبات للحركة، وتتداخل هذه الأوراق وتتقاطع مع قناة التنسيق المفتوحة مع واشنطن الني قد تحتمل صيغاً أكثر فائدة للحركة، وبإنتظار نتائج ما يجري في سوريا كذلك.

من هنا، نحن أمام تيار مفاوض ومتربص و يمتلك أفيوناً رخيص الثمن، غير معني بتفكيك البنية الإقتصادية لصالح الطبقة الفقيرة، وإنما يشكل إمتداداً للنهج الإقتصادي الرأسمالي ولكن بحماية ذهنية مرتبطة بالنص الديني. وهذا التيار مستند بالكامل على إنهاء "جولات الصراع" من خلال صفقة، ولهذه الصفقة شروط موضوعية وذاتية تعيها الحركة جيداَ، ومنها الإستمرار في النزول إلى الشارع، ولكن على إيقاع يتناغم مع مدى تقدم أو تراجع المفاوضات ، مع النظام نفسه ومع واشنطن في ذات الوقت، فواشنطن لا تمانع بقدوم الإسلاميين طالما أنهم ملتزمون بخدمة الإستثمار الخارجي ولعب ذات الدور الإقتصادي والسياسي والإبقاء على صفاء العلاقة مع الكيان الصهيوني، والإسلاميون لا يمانعون أن يأتوا بمباركة ومساعدة أمريكية طالما أنهم لا يرغبون أساساً في تغيير المفاصل الأساسية للمجتمع: الإقتصاد والسياسة.

خطاب معارضة المحافظات

يجري الحديث عن تهميش لأبناء المحافظات مع غياب القطاع العام، وإنعدام التأسيس لخدمات إجتماعية عامة فيها. لا بد هنا من الوقوف عند الملاحظات التالية:

·       إذا أردنا إختصار "التهميش" في فقدان الوظائف بسبب غياب القطاع العام، فإننا نلاحظ أن شواغر تركة القطاع العام والجيش إلى الآن هي من نصيب أبناء المحافظات، عندها يصبح أبناء العاصمة هم المهمشون وليس العكس! ولكن حتى هذه الصيغة غير قابلة للحياة في إطار مشروع عابر للتقسيمات الفرعية.

 والسبب في هذا الإفقار الجماعي وليس "التهميش لفئة محددة"، هو لبرلة السوق والسياسة على حد سواء، وقادة هذا المشروع هم من فئات متعددة تنتمي إلى عرق واحد وهو "الطبقة" و "الربح"!! وهذه الطبقة إرتأت أن الطريق الأسلم لزيادة أرباحها هو فتح مكاتب الإستثمار الأجنبي والمستشفيات والمدارس الخاصة وشركات التأمين، إلخ.... في العاصمة والإستفادة من نسب أرباح المصانع في المناطق الصناعية المختلفة وتجاهل أي شيء آخر (التأسيس لخدمات إجتماعية في المحافظات على سبيل المثال).

·       المسألة ليست في غياب الشواغر والخدمات، بل تكمن في غياب الدولة كجهاز إقتصادي إجتماعي ناظم لحياة الناس، وعلى كل حال فإن الخدمات المتوافرة في العاصمة على الصعيدين الصحي والتعليمي على سبيل المثال هي بالأغلب خدمات خاصة "يقودها القطاع الخاص" كما أوردنا أعلاه، وهذه لا تشكل أي ضمانة إجتماعية، ولا تقدم تفضيلاً للسكان القريبين منها جغرافياً على حساب غيرهم.

 في ظل هذه الظروف يتسلل خطاب سياسي ليحمل حراك المحافظات في المسار التالي:

·       أن أبناء المحافظات "المهمشين دون غيرهم" تم إقصاؤهم، بسبب غياب القطاع العام، والسبب في هذا الغياب هو توسع القطاع الخاص، والسبب في هذا التوسع هو فئة كمبرادورية فلسطينية حصراً ( وليس قراراً سياسياً إتخذته الطبقة آنفة الذكر). ومن هنا يبدأ التحشيد ضد أسماء محددة ومن أصول محددة دون غيرها بوصفها المسبب الأساسي لكوارث الأردن الإقتصادية، ويتم حرف مسار الصراع بذلك من حرب ضد المنظومة بأكملها إلى حرب على الأشخاص.

·       أن الوجود الديمغرافي الفلسطيني يشكل تهديداً للهوية الوطنية الأردنية، ومن هنا وجبت دسترة أو قوننة فك الإرتباط ( والسؤال هنا: ماذا لو لم تكن الضفة الغربية عام 1967 جزءاً تابعاً على المستوى الإداري للأردن، عندها ماذا سيكون الحديث عن الهوية الوطنية الأردنية ؟)

·       أن التمثيل السياسي لا بد أن يتم على أرضية تغليب نسب المحافظات من خلال القانون ومن خلال تعريف الأردني مجدداً "من يحق له الإنتخاب".

وفي هذا السياق، يحاول هذا الشكل من الخطاب السياسي "الواقعي والمتمكن من التفاصيل"، أن يجعل من العداءين حزمة واحدة، عداء للفلسطينيين في الأردن، وعداء للنظام!

يحاول العاملون على هذا الخطاب ترويجه من خلال "واقعيته"، ولكن ماذا لو غاب هؤلاء "المنظرون" عن مجمل هذا الخطاب؟ ألن يسير الواقع في ذات الصيرورة أو لربما في صورة أفضل؟ إذن ما هو دورهم في تغيير الواقع وحرف مسار الصيرورة التاريخية ذاتها؟ وهل تعني الحلول الواقعية فهم الواقع دون تغييره؟ والإكتفاء بالنظر إلى التناقضات الثانوية وهي تحل تلقائيا وذاتيا بغض النظر عن النتائج؟ من إذن سيقدم الحلول "الصعبة" لتصبح واقعاَ في نهاية المطاف؟ وهل كان من الصعب "التنظير" لعداء الإخوان بتوصيفهم التيار السياسي للكتلة الفلسطينية، و"التنظير" لعداء حراك المحافظات بتوصيفه عصبوياً؟  
إن إستفزاز التناقضات الثانوية أمر سهل، لا يحتاج إلى مثقف ولا بوصلة سياسية متمكنة، الواقع وبدون مبالغة قادر على حمل خطاب جامع وعلى النقيض من ذلك تماماً، يوحد صفوف الطبقة الفقيرة، ويخرج بعضاً من أبناء المحافظات من أوهام الخطر الفلسطيني، و بعضاً من أبناء "الطرف الآخر!!" من أوهام خطاب الحقوق المنقوصة.

في الأردن، كما هو الحال في العديد من البلدان العربية، طريق ثالث بات لازماً،  يحدد هدفه الإستراتيجي بالإستناد إلى التناقضات الأساسية "الفقراء أمام المحتكرين للثروة، هكذا فقط"، ولا يضع الخاص في مواجهة العام إنطلاقاً من "فن قراءة الممكن"، تلك هي المهمة الحقيقية الراهنة للمثقفين والسياسيين العرب.

في الأردن يتقدم خطاب إخواني غير راغب وغير هادف البتة إلى تغيير النمط الإقتصادي القائم، والذي يشكل العقدة الأساسية لمجمل المصائب الإجتماعية، وبالتوازي يتقدم خظاب سياسي عصبوي، يدعو إلى إعادة إنتاج "الفساد" وتدويره وحصره لصالح فئة دون غيرها.

قد يقول قائل: ما هو الطريق الثالث إذن؟ هل هو ثالث ضمن نطاق المعارضة ذاتها؟ أم ثالث مع الأخذ بعين الإعتبار طريق النظام الحالي؟ إن معارضة الأخوان، ومعارضة "فك الإرتباط"، ومعارضة "المواطنة والحقوق المنقوصة"، والمعارضة الليبرالية المخملية الناعمة، جميعها معارضات مشوهة، لذلك فهي تعبر عن طريق واحد وهو المعارضة غير المنجزة، لذلك نحن بحاجة طريق ثالث بعيداً عنها وبعيداً عن النظام.

المطلوب اليوم هو شق طريق ثالث يمتلك تصوراً واضحاُ عن توزيع جديد لموارد الثروة، يطرح أنماطاً جديدة لإستغلالها، يبني مجموعة من التحالفات السياسية والإقتصادية الجريئة التي تنهي علاقات التبعية للمركز المصنع، ويزج بنفسه مباشرة في معركة سياسية تناحرية مع العدو الصهيوني وأمريكا،  وينهض بالنمط الإجتماعي العلماني بالدرجة الأولى القادر على تجاوز كل أشكال العصبوية من الدين إلى العشيرة إلى الإقليم ..... هذا هو الطريق الثالث الذي ما زال غائباً على الرغم من ممكنات الواقع في حمله!