الجمعة، 23 مارس 2012

الرأسمالية وأوهام السوق الحر


تقدم الرأسمالية حرية النشاط الإقتصادي على أنها عنصر بشري هام، وتراهن على هذه الحرية على أنها "اليد الخفية" في بناء المجتمعات، هذا ما راهن عليه آدم سميث في أهم أدبيات الرأسمالية، لقد كان هذا الفكر وما زال فردياً بالكامل، فهو لا يطور القدرات الفردية بل يعزز النزعات الأنانية ويقضي على روح الإبداع الفردي في آن واحد.

في اليد الخفية لآدم سميث رسالة إلى البحث عن المصلحة الفردية، ومن هناك يتم بناء المجتمع ضمنياً وبطريقة "ساحرة"، الجميع في سياق بحثه عن مصلحته الخاصة، يجبر على التعامل الجيد مع الآخرين، ومن هنا تتعاظم أخلاقيات هذا المجتمع بطريقة قسرية وإجبارية تحت شعار المصلحة، والمصلحة فقط.في الرأسمالية تجلت حرية السوق نظرياً في آدم سميث وتحديداً في مبدأ "اليد الخفية"، ومفادها أن المجتمع يتطور ويتقدم إنطلاقاً من حرص الفرد على مصلحته الخاصة ،  وفجأة يكتشف أنه يقدم الفائدة للمجموع "نحن لا نتوقع الحصول على عشائنا بفضل نزعة الخير لدى اللحام أو الساقي أو الخباز، بل من إهتمامهم بمصلحتهم الخاصة". كان لهذه النظرية أن تسمى باليد القذرة بدلاً من الخفية، لقد تطورت لغة النظرية إلى أن أصبحت بالكامل لغة سلطة، وبات كل شيء متاحاً لتحقيق "المصلحة الخاصة" التي تصب في النهاية لصالح "المصلحة العامة" تحت عنوان إرضاء الزبون "customer satisfaction"!!، ومن هنا يمكن التعريج على منظومة الفساد التي تحارب اليوم بمعزل عن الصورة الكاملة والنهائية للنظام ككل، فتحقيق المصلحة الخاصة كهدف أساسي لا يمكن له أن يتقاطع بهذا النحو الأخلاقي اليوتوبي مع المصلحة العامة.

إذن بهذا المنحى يتهاوى الإستعراض الأول لهذه النظرية بقدرتها على بناء المجتمع ودفع شبكة العلاقات الإنسانية للحركة بطريقة ضمنية، ودون تأثير أو تدخل الذي تعيب به هذه النظرية، النظريات الأخرى.

ولكن لو توقفنا قليلاً عند التجربة التاريخية العملية لهذه النظرية، هل فعلاً تمكنت من بناء حياة تسير بقوة الدفع الذاتي دون تدخل، إذن ماذا عن حقبة الحرب والإستعمار التي خاضتها البرجوازية الأوروبية ضد شعوب العالم أجمع، وماذا عن أدوات الإدارة القمعية بحق العمال إبان الثورة الصناعية، وماذا عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وماذا عن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال الغزو العسكري كأحد أشكال غزو الأطراف، وماذا عن تدخل الدولة لإنقاذ النظام من الإنهيار في أزمتي 1929م و2008م بالتحديد. هل هذا هو الشكل الحر للإقتصاد الحر، وحرية النشاط الإقتصادي. إن االإستنتاج النهائي لذلك هو أن التدخل عامل أساسي في معادلات الإقتصاد، بقي أن نحدد نحن شكل هذا التدخل، هل هو تدخل بمنحى إحتكاري إستغلالي يتمثل في الرأسمالية كنظام، أو بمنحى عادل وناظم يتجلى في الإشتراكية كفكر وكتطبيق يحتاج لمزيد من البحث والتمحيص. وبموجب إلزامية هذا التدخل، تصبح هذه النظرية على حد تعبير المفكر سمير أمين "الفيروس الليبرالي"، نظرية خيالية وغير قابلة للتطبيق على النقيض مما تدعي وعلى النقيض مما تهاجم به النظريات الأخرى في طوبايتها.

إن المرد الإجتماعي لليد الخفية هو مزيد من النصب والإحتيال والجرائم والحروب والمجاعات والأوبئة وتدمير البيئة، كل ذلك لا يمكن له أن يكون في إنفصال عن الرغبة في الربح الدائم وترصيد المزيد من الأرباح، مهما حاولت المنظمات العالمية تجميل هذه الصورة وتزييف الحقائق، من خلال إتفاقيات حقوق الإنسان، وكيوتو،وسيداو وغيرها....

لا يقتصر تأثير اليد الخفية والرأسمالية بالضرورة على تفشي الجرائم والنصب والإحتيال، بل يطول النفس البشرية ليصيبها بالإكتئاب والإحباط، والعجز عن الشعور بالسعادة في الفعل المرغوب، الفعل المرغوب بما فيها العمل، فبما أن الربح هو الفكرة المركزية التي تدور باقي الأفكار في فلكها، فلا داعي هنا للحديث عن الميول والرغبة، ليصعد العرض والطلب كعامل أساسي ووحيد في الإختيار، فوحده القادر على تحديد نوع الفعل وشكله وتوقيته. ومن هنا أيضاً تسقط أوهام الرأسمالية في تطوير "الموارد البشرية". فهل من الممكن الحديث عن حرية الإقتصاد بمعزل عن حرية الإختيار والإبداع الحر للعاملين؟ في الحقيقة وفي ظل البنية الإقتصادية الرأسمالية يكمن العرض والطلب في المركز، وتصبح مسألة الحرية مسألة ثانوية. بمعنى أن خيارات البشر في العمل ووفقاً لآليات تقسيمه  لا بد لها أن تصطدم في أفق "النجاحات" الراهنة  "مستويات الدخل، فرص العمل،...إلخ". إن الطلب هو المحدد الأساسي للإختيار، فهو فرصة النجاة من واقع مرير قادم "البطالة، إنخفاض الدخل، غياب الضمانات الإجتماعية الأساسية،...إلخ". لذلك فإن  نهج العرض والطلب هو النقيض الصارخ للإبداع والإختيار الحر، هو القيد الأساسي لإنفجار رغبات الناس وترجمتها إلى قيمة حقيقية.

في البحث عن جدوى أية فكرة ذات علاقة بالمجتمع وعلاقات الشعوب والأمم، ينظر إلى مردودها المصلحي، ولصالح من. وفي الوقوف على حرية النشاط الإقتصادي، لا بد من الوقوف عند حدود هذا السؤال. لقد تحولت حرية النشاط الإقتصادي إلى أفكار وإلى أدبيات على يد الفئة المستفيدة من ذلك، البرجوازية الأوروبية بالدرجة الأولى.



في حرية النشاط الإقتصادي، هناك العديد من الملاحظات على النقيض من الفكرة وتطبيقها، ومنها:

·       وهم النظرية على المستوى التطبيقي، في زاوية غياب التدخل تحديداً. وهنا أتحدث عن النظام الإقتصادي الإنساني في ظل ظروف الذاتي والموضوعي المتاحة في عصرنا، أما في الحديث عن نمط الحياة الفوضوي الأكثر سعادة فله ظروف إجتماعية تتعلق بالوعي الجمعي تحديداً، تجعل منه أملاً فيما هو لاحق.

·       الإفرازات الإجتماعية المتمثلة في الفقر والجوع والجرائم والنصب والإحتيال والإحباط والإكتئاب، هي الناتج الطبيعي لليد الخفية والرأسمالية.

·       سقوط الميول والرغبة أمام سلطة العرض والطلب.

·       إنحسار الفئة المستفيدة من أفكار حرية النشاط الإقتصادي في الفئة ذاتها، الطبقة المحتكرة للثروة وأنصارها الكمبرادوريين.

هنا في الحديث عن حرية الفعل الإقتصادي، لا مكان للحياد إما أن تكون مع الرأسمالية العالمية وإما أن تكون ضدها، نشر الكاتب يوهان نوربيرج كتاباً بعنوان "دفاعاً عن الرأسمالية"، حاول أن يعرض فيه مجموعة من الدلائل على تراجع حدة الفقر في ظل الرأسمالية وليس العكس، إنطلق من مجموعة من المشاهدات في الهند والصين ودول المنظومة الإشتراكية السابقة، وأن حال هذه الشعوب تحسن في ظل الرأسمالية العالمية، إعتمد على مجموعة من الإحصائيات ذات العلاقة بنسبة الوفيات بين حديثي الولادة، وعدد السكان، ومتوسط عمر الفرد، وإرتفاع معدل الدخل، ونسب الأمية.

ولكن هل يمكن الإستناد إلى هكذا أرقام، مع التحفظ على العديد من النسب التي يروج لها، في الوصول إلى إستنتاجات مفادها تراجع الفقر في العالم وتحسن أحوال الشعوب (دفاعاً عن الرأسمالية، يوهان نوربيرج) ، هنا لا بد من لفت الإنتباه إلى المسائل التالية:

·       إن المقارنة بين الخمسينيات والسبعينيات من جهة والتسعينيات والألفية الثالثة من جهة أخرى، هي بحق مقارنة مجحفة ومضللة، فنحن نتحدث هنا عن مرحلتين يفصل بينهما إنفجار كبير للثورة التكنولوجية، هذا الإنفجار الذي كان لا بد له أن يقدم الشيء الكثير في تطور حياة الشعوب وتسهيلها، ولكنه تحول في أماكن عديدة إلى أدوات إستلابية للناس وإستخباراتية عليها. هذا التطور الذي لا بد له بالضرورة أن يسحب معه تطوراً هائلاً في الطب والصناعات الدوائية، لم يتناسق مع درجة الإزدياد في عمر الفرد أو نسبة الوفيات من حديثي الولادة.

·       لا يجوز أبداً، وحتى من روح أدبيات الرأسمالية ذاتها، أن يتم مقارنة متوسط دخل الفرد مع تجميد التضخم كعامل أساسي، فهنا لا يمكن الحديث عن إزدياد خطي في متوسط الدخل يرافقه منحنى خطي للزمن.

·       إن الثورة التكنولوجية لم تحد من الفقر بما يتوازى مع مستواها كثورة من جانب، ومن الجانب الآخر خلقت مجموعة من المستلبين، الذين أطلق عليهم الدكتور هشام غصيب مسمى "البروليتاريا الذهنية"، هذه البروليتاريا الذهنية تضم صفوفاً عريضة من العاملين الموتورين، والفقراء، وذوي الدخل المحدود، والأغنياء غنىَ مؤقت مهدد بشكل دائم، مستلبة لا تشعر بالسعادة، مكتئبة، خائفة، ومترددة، وتعاني حالات إنتحار عديدة على أية حال، مدينة بشكل دائم، تخشى المستقبل والماضي كذلك، وتتمسك في الحاضر على أنه أفضل صيغ السيء، أسيرة للعرض والطلب، وباتت مستعدة للإستغناء الكامل عن رغباتها وطموحاتها، وأبقت على حلم واحد لا يتحقق أبداً، أن تصبح يوماً ما غنية. في طل هذا الإستلاب ليس من الغرابة أن تروج الدراسات الأمريكية نفسها كالتالي "72% من العائلات الفقيرة في أميركا تمتلك سيارة أو أكثر، 50% تمنها تمتلك مكيفا هوائياً، و20% منها تمتلك غسالة صحون،،،، إلى آخره المشاهد التضليلية.

·       لعبة الرأسمالية العالمية تكمن في الدراسات والأرقام، التي تنتجها هي نفسها، وتضيء على ما تشاء منها: نسب النمو، التضخم، الوفيات، المشاريع "الإنمائية"، ....إلخ. الأرقام بحر من الدلائل مع وضد، ولكن الواقع لا يمكن أن يقاس هكذا، ففيه العديد من الظواهر العابرة للأرقام الزائفة والملطفة، فيه الفقراء، والمرضى العاجزين عن السداد، وفيه المرضى المخدوعين من قبل شركات التأمين، وفيه أناس بلا مأوى، وفيه ماراثون القروض السكنية، إنها بحق النظرية الإقتصادية الخيالية. 

عن أي تراجع لحدة الفقر نتحدث، إن كانت الباكستان صاحبة القنبلة النووية، توزع الطاقة الكهربائية، ليتم إيقافها عن العديد من المدن بمعدل 10 ساعات يومياً؟ ما نقوله هنا أن الحداثة خلقت أبراجاً عالية، وتقنيات حديثة، وتواصلاً إجتماعياً تقنياً، ومولات واسعة، وماركات كثيرة لغايات مجتمع الإستعراض، ولكنها أبداً لم تخلق السعادة البشرية، خلقت طبقة فقيرة في أشد حالات العوز، تغيب عنها الدولة أو المركز في الرعاية الإجتماعية، وطبقة وسطى مترددة وخائفة وموتورة و مستعرضة، وطبقة غنية غير آبهة. هذا هو النتاج الإجتماعي العيني والملموس للمجتمع الرأسمالي.

يتناول كتاب نوربيرج عرضاً للتجربة الصينية، ويدعم الإنفتاح الإقتصادي فيها الذي بدأ في عهد دينغ بنغ عام 1978، وينظر إليه على أنه مؤسس لمرحلة جديدة تتجاوز الديكتاتوري المركزية السابقة التي كانت تطالب المزارعين بتسليم إنتاجهم، ويعتبر ذلك مؤثراً على التقليل من إنتاج المحاصيل. ولكن هل حقاً تحسنت الأحوال في الصين بعد هذه الحقبة؟ أشار بوركت في كتاب "الصين والإشتراكية" إلى أن الريفيين الصييين اليوم يبيعون دمهم للحصول على المال!

فيما يخص الزراعة كإحدى أهم قطاعات الإنتاج، فالخصخصة تعني المزيد من الحلقات الوسطى التي تفصل بين المزارع "المنتج الأول"، والمستهلك الأخير، والتي تعطيها الرأسمالية إسماً مهذباً "شبكات التوزيع"، إن أي خلل في إحدى هذه الحلقات "إرتفاع تكاليف عملها، رغبتها في مزيد من الأرباح ومن خلال الإتفاق مع المنافسين"، ستسحب معها المزيد الرغبة المشابهة في الحلقات اللاحقة، الأمر الذي يسدد الضربات المتلاحقة للمستهلك الأخير من جهة، ويعطي إحدى المبررات لأكذوبة التضخم في النظام الرأسمالي.

وينتقد الكاتب كذلك تجربة الحماية الإغلاقية التي مارستها الهند على الإستيراد والتصدير، ويعتبر أن هذه الخطوة بتأثيراتها على الإستثمار، وبعوائق البيروقراطية، قد أثرت على الإقتصاد الهندي، ويتناسى تماماً أن نقطة الإنطلاق لإستقلال الهند عملياً بدأت من هذه النقطة، بدأت من مسيرة الملح ودعوة غاندي للشعب الهندي أن يجتمع ويحرق ملابسه التي تصنع في بريطانيا وينهب قطنها من الهند، وهذا هو حال الإستعمار يخرج من النافذة حاملاً سلاحه ليدخل من الباب عارضاً شرائح البوربوينت لمنتجاته، وبأمر من صندوق النقد الدولي أن لا يتنج مثيلاً لها داخلياً.

يجري الترويج إلى أن الغرب أصبح "العالم الغني" لأن فيه نظاماً إقتصادياً حراً، جميل! إذن لو إقتدت شعوب الأطراف المقهورة بذلك، وتخلت عن حريتها في الإستهلاك، لتصبح حرة في الإنتاج، هل سيستمر النظام الرأسمالي العالمي؟ بالتأكيد لا، فمعنى الحرية في الإنتاج والرغبة فيها وتأطيرها، وذلك الأهم بداية، بنظام سياسي يعمل على ذلك، يعنى إختناق المراكز العالمية المصنعة من غياب الأسواق، وعندها سيتضح فشل هذا النظام لأن يكون عالمياً بحق، فهو لا يستطيع الحياة في منظومة عالمية إلا إذا كانت إحتكارية.

أما أكثر حجج الرأسمالية إثارة للضحك والسخرية، أن السوق الحر يقلل من نسب الفساد. إن الفساد ظاهرة أصيلة ملازمة للنظام الرأسمالي، فعلاوة على مجموعة القوانين التي تنتجها السلطة ذاتها لصالح الفئات الإحتكارية، تقف الدولة في موقع الجابي والناهب لأموال الناس، دون عمل مقابل، دون رعاية إجتماعية، ودون حتى حماية إقتصادية. إن ما تعيب به الرأسمالية على الإشتراكية، تمارسه دون مقابل ودون ضمانات.  



يقول الرأسماليون إن الإقتصاد ليس "لعبة مجموع الصفر"، لكنه في الحقيقة لعبة الأرقام الموجبة للطبقة المحتكرة والسالبة للفقيرة والصفر للمستلبة. وتفاوت النسب داخل هذه اللعبة هو الذي سيخلق الإنفجار الكبير القادم، قريباً فعلاً هذه المرة...