الخميس، 1 ديسمبر 2011

ندوة منتدى الفكر الإشتراكي: مداخلة الأستاذ عصام التل

ربّ سائل: لماذا الحديث عن الحركة الوطنية الأردنية في عهد الإمارة، من 1921 إلى 1946؟ وهل في هذا ما يشبه أردن اليوم بعد كل ما جرى من مياه تحت الجسر؟

متصفح هذا الكتاب، للدكتور عصام محمد السعدي، يدهش لما فيه من سرد وتوثيق للوقائع، ومن تسمية للأشياء بأسمائها. فهو وإن كان يسرد بلغة سلسلة خالية من الخطابة السياسية، إلا أنه بيان سياسي بامتياز، يستند إلى الحقائق بالدرجة الأولى، وإلى التحليل والاستنتاج بدرجة أقل. وفي طياته سجل لعدد هائل من الوثائق التي يوردها في هوامشه، والتي تشكل، في معظمها، مرجعاً مثبتاً متسقاً لمن يريد أن يقرأ الرواية المنحازة إلى الجماهير لتاريخ الشعب الأردني، وحركته الوطنية، في سياقها التاريخي، منذ ما قبل نشوء الإمارة بموجب تعاقد أبرم في القدس  بين وزير المستعمرات البريطاني، ونستون تشيرتشل، والأمير الهاشمي عبد الله القادم من الحجاز، والذي يقضي بأن يمنح الأول الثاني مهلة ستة أشهر، كفترة تجريبية، "لإقامة حكم محلي فيها بمعاونة ضابط سياسي بريطاني يعمل بصفة رئيس مستشارين للأمير عبد الله، ويساعده في توطيد الأمن والنظام في شرقي الأردن... وذلك من أجل بلوغ الهدف، مقابل أن يضمن عبد الله "عدم قيام هياج ضد الفرنسيين وضد الصهيونية في البلاد، وأن يتعاونا تعاوناً كاملاً في توطيد أسباب الهدوء والأمن والاستقرار تحت الانتداب البريطاني".

"وافق الأمير عبد الله بسهولة على مقترحات تشرتشل، التي تضمنت التخلي عن المطالبة بتحرير سورية (من الفرنسيين) وبدون نقاش"، وهو الشعار الذي رفعه عبد الله قبل وصوله إلى معان من الحجاز، وجعل الاستقلاليين السوريين الذي قاتلوا المحتل الفرنسي ولجأوا إلى الديار الأردنية المتلاحمة مع كفاحهم يرحبون به ويعلنون مساندتهم لمشروعه المعلن في استرداد الدولة العربية السورية الفيصيلية، التي أجهز عليها تقسيم بلاد الشام بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وإعلان بريطانيا المنتصرة على الإمبراطورية العثمانية في الحرب الكونية الأولى وعد بلفور بإقامة وطني قومي لليهود في فلسطين.

"بعد عودته إلى عمان من القدس، أرسل الأمير عبد الله إلى والده، ملك الحجاز الحسين بن علي في 20/4/1921، رسالة يبرر فيها تنازلاته جاء فيها: "... ولتأكدي من حقيقة عدم الاقتدار على استخلاص سوريا بحرب نقيمها نحن بدون مقاومة دولية، ولوقوفي هنا على حقيقة عدم اقتدار الشعب السوري على ذلك، وتأكدي أيضاً من عدم إمكان رجوع الأخ فيصل إلى سوريا برضى من فرنسا، فقد قبلت الخطط السياسية المعقولة التي رسمتها بريطانيا وتعهدت أن أدير منطقة شرق الأردن بصفتي ممثلاً لجلالة ولي النعم..."

لخَّص اتفاق تشيرتشل – عبد الله طبيعة الوظيفة الأمنية- السياسية التي تحددت للدولة الأردنية الناشئة ضمن خريطة التقسيم الإمبريالي للعمل في المنطقة العربية لحقبة ما بعد اتفاق سايكس – بيكو، البريطاني - الفرنسي. وهي وظيفة امتدت حتى يومنا هذا، رغم كل المنعرجات وصعود وهبوط خطها البياني وفقاً لقدرات الحركة الوطنية الأردنية، كطلعية للشعب الأردني، على مجابهة المشروع الإمبريالي- الصهيوني- الرجعي في المنطقة، وللشروط التاريخية ومعطيات الجغرافيا السياسية، ومن أبرزها دور الصهيونية، وأداتها الإسرائيلية، في إفشال المشروع الوحدوي العربي عامة، والشامي، خاصة، والتحولات الاجتماعية – السياسية التي شهدتها المنطقة بدخول الاستعمار الأميركي الجديد وتوسع السوق العربية عامة، والأردنية خاصة، في أواسط خمسينيات القرن الماضي، وظهور النفط كعامل حاسم في الصراع على الأوطان وعلى وعي الجماهير، الأمر الذي وضع أمام الحركة الوطنية الأردنية مهاماً معقدة وربما أكبر من طاقتها، في مواجهة الحلف الإمبريالي – الصهيوني – الرجعي العربي، الذي يتبدى اليوم في أكثر تجلياته وضوحاً.

لم تقف الحركة الوطنية الأردنية مكتوفة الأيدي أمام المشروع الإمبريالي- الصهيوني في المنطقة. ففي مواجهة ذلك، عقدت القوى الشعبية الأردنية قبل قيام الإمارة مؤتمر أم قيس في 2/9/1920، الذي ضم في الأساس زعامات الشمال الأردني وانتهى بمعاهدة أم قيس مع المعتمد البريطاني الميجور سومرست نائباً عن المندوب السامي في فلسطين مثلت مطالب الأهالي، ومن أبرزها: المطالبة بإقامة حكومة وطنية موحدة ومستقلة، استقلالاً كاملاً، ذات جيش وطني. وبمنع الهجرة اليهودية إلى شرق البلاد منعاً باتاً، وبمنع بيع الأراضي لليهود، والمطالبة بعدم تسليم الوطنيين السوريين والأردنيين الذين لجأوا إلى شرقي الأردن إثر سقوط الحكم العربي بدمشق، وبإلغاء أحكام النفي والإعدام بحقهم من السلطات العسكرية الفرنسية.

ومع بدء الترتيبات لإقامة الإمارة في نيسان 1921، رأى الأردنيون أن ما يجري تطبيقه على الأرض يتناقض مع طموحاتهم الوطنية في النضال من أجل دولة عربية سورية موحدة تضم سورية ولبنان والأردن وفلسطين. وعلى الرغم من الطابع العشائري الغالب على الحركة الوطنية، إلا أن الأغلبية الساحقة من شيوخ العشائر، ومعهم المثقفون الأردنيون المسكونون بالهم السوري العام وبالخطر الصهيوني، ردت على ما رأته من وظيفة أمنية سياسية تحضّر للأردن والأردنيين في خدمة المصالح الإمبريالية والصهيونية بانتفاضات شعبية في الكورة، في الشمال الأردني، استمرت من أيار 1921 حتى أيار 1922. ومن ثم انتفاضة العدوان في أيلول 1923، وانتفاضة وادي موسى في شباط 1926، رغم طابعها العشائري والمحلي.

ومن أجل " توطيد أسباب الهدوء والأمن والاستقرار تحت الانتداب البريطاني"، وفقما نص عليه اتفاق القدس، ولإضفاء نوع من الشرعية على المعاهدة البريطانية- الأردنية التي وقعها نظام الإمارة مع بريطانيا في 20 شباط 1928 لضمان السيادة السياسية والعسكرية البريطانية على البلاد، والحصول على اعتراف دولي يكرس الهيمنة البريطانية المباشرة على شرقي الأردن، أصدرت الحكومة البريطانية قانوناً أساسياً لشرق الأردن في 16 نيسان 1928، بينما لجأت حكومة الإمارة إلى إصدار عدة قوانين استثنائية لخنق الحريات العامة وإجهاض حركة المعارضة الوطنية التي ولدت على قاعدة مقاومة الاستعمار والتصدي لمخططاته.

وجاء انعقاد المؤتمر الوطني الأول في 25/7/1928 رداً صريحاً يعبر عن تجاوز الأردنيين للطابع المحلي والجهوي للاحتجاجات، ويرتقي بالتعبير الشعبي إلى مستوى الحركة الوطنية الشاملة للأردنيين بشتى مكوناتهم الاجتماعية. وفي هذا المناخ، شهدت مناطق شرقي الأردن إضراباً عاماً ومظاهرات حاشدة تندد بالمعاهدة وتطالب بإلغائها، وقدم وجهاء البلاد للأمير المطالب التالية:
1. رفض المعاهدة رفضاً تاماً.
2. المطالبة بتنفيذ مواد معاهدة أم قيس حرفياً.
3. إلغاء المادة 25 من صك الانتداب على فلسطين.
4. تأسيس حكومة وطنية فوراً والمبادرة بإجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة.

وعلى إثر حركة الرفض الشعبي العام للمعاهدة، وإصرار الأمير عبد الله على التصديق عليها غير عابئ بإرادة الجماهير، تداعى زعماء البلاد في تموز 1928 لعقد اجتماع كبير في عمان مهد لعقد المؤتمر الوطني الأول في 25/7/1928.

افتُتح المؤتمر في مقهى "حمدان" بعمان، برئاسة الشيخ حسين الطراونة، وضم ممثلين عن مختلف مناطق البلاد وطبقاتها الاجتماعية، وأقر جدول أعمال تضمن، بين ما تضمن، بندين مهمين:
1. مشروعية المعاهدة البريطانية التي ستفرضها السلطات البريطانية على شرقي الأردن.
2. موقف شرقي الأردن من تصريح بلفور القاضي بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود.

كما أقر المؤتمر، بعد أن ناقش على مدار أربعة أيام متتالية جدول أعماله، "الميثاق الوطني الأردني"، وانتخب لجنة تنفيذية ضمت 21 عضواً برئاسة حسين الطراونة يمثلون مختلف أقاليم البلاد.

توالى انعقاد المؤتمرات الوطنية، بينما تولت اللجنة التنفيذية مهمة الحوار والصراع مع حكومة الأمير والمعتمد البريطاني، حيث شكلت مؤسسة المؤتمر الوطني "خندقاً شعبياً حصيناً لزعماء البلاد الوطنيين، ومصدر قوتهم، لمواجهة السياسات المحلية والبريطانية في البلاد".

فاتخذ المؤتمر الوطني الثاني، الذي عقد في قاعة فندق حمدان في عمان، في 7/12/1929، قرارات كان من أبرزها: السعي وراء الاستقلال التام أسوة بباقي البلاد العربية، والسعي لتحقيق بنود الميثاق الوطني، وإلغاء القوانين الجائرة، كقانون وضع الجرائم وقانون النفي والإبعاد وقانون العقوبات المشتركة، والاحتجاج على وعد بلفور المشؤوم الذي، وإن صح، سيكون ضربة قاضية على البلاد العربية كلها، ومقاطعة اليهود، ومنع تسرب الأراضي إليهم، والسعي للوحدة العربية.

وشهدت الفترة التي سبقت انعقاد المؤتمر الوطني الثالث، الذي انعقد في ديوان عبد القادر التل في إربد، وتم افتتاحه بنشيد وطني لطلاب مدرسة إربد، خلافات بين أعضاء اللجنة التنفيذية، حيث نجحت الحكومة في شق صفوف المعارضة، وانحياز بعض شيوخ وزعماء البلاد لمصالحهم الخاصة، على خلفية الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والجفاف، والتي دفعت البعض إلى محاباة الحكومة في محاولاتها تقديم التسهيلات للوكالة اليهودية، وبيع وتأجير أراضي الأردن لها.

وقرر المؤتمر تشكيل حكومة دستورية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب انتخاباً حراً وصحيحاً، واعتبر أن "الاضطرابات والإبهام السياسي والفوضى الإدارية والخبط القضائي والأزمات الاقتصادية المستحكمة إنما هي نتيجة محتمة لهذا الوضع السياسي الشاذ الذي عليه البلاد الأردنية".

وانعقد المؤتمر الوطني الرابع في 15 آذار 1932 وسط ظروف تفسخت فيها المعارضة السياسية، وقبول بعض عناصر المعارضة الوطنية للوظائف الرسمية، إلى حد وصف جريدة "الجامعة العربية" الصادرة في القدس لحالة هذه المعارضة بأنها "يرثى لها"، مضيفة أن "جماعة المعارضة التي حملت المبدأ الوطني وجاهدت في سبيله بضع سنوات، لم تلبث أن أدركها الوهن والهلاك، وقد اندس في صفوفها كثير من النفعيين والوصوليين الذين لم تكن معارضتهم عن مبدأ أو عقيدة، وإنما كانت لقصد الوصول إلى الكراسي عن طريق المعارضة.." ورغم الخلافات، طرح المؤتمر قضايا جوهرية ركز فيها على سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، وعلى أخطار الحركة الصهيودية على شرقي الأردن، كما على فلسطين.

وانعقد المؤتمر الوطني الأردني الخامس في السلط، في 6 حزيران 1933، في ظل أزمتين عاشتهما جماهير شرقي الأردن:
أولاً، أزمة اقتصادية عاشتها البلاد منذ 1928، بسبب سنوات القحط المتتالية وما رافقها من ضرائب فوق طاقة الناس.. مما دفع شيوخها وزعمائها إلى التفكير بتأجير أراضيم الزراعية للوكالة اليهودية، وبالفعل أجرى بعض الشيوخ اتصالات معها لهذه الغاية، وشجعهم في ذلك إعلان الأمير عبد الله في الصحف عن رغبته في تأجير أراضي "غور كبد"، و"لمن يرغب في ذلك".

وثانياً، أزمة سياسية/تنظيمية شعبية، تمثلت في حالة الانشقاق في الصف الوطني التي عصفت بمؤسسة المؤتمرات الوطنية.

بيد أن شق صفوف الحركة الوطنية الأردنية، ممثلة في المؤتمرات الوطنية، بفعل عصا القوانين الاستثنائية وقمع السلطات لها وضغوط الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، من جهة، وجزرة الوظيفة الميري وامتيازاتها التي راحت تكبر مع تضخم الدور الوظيفي للنظام في سياق التقسيم الإمبريالي للعمل في المنطقة، وتفاقم المشروع الصهيوني ومتطلباته الأمنية، لم يفت من عضد هذه الحركة. فلم يقتصر دور الأردنيين على احتضان وحماية المناضلين السوريين والفلسطينيين في قتالهم للاستعمار الفرنسي لسورية، وللانتداب البريطاني ومشروعه الصهيوني في فلسطين، وإنما تجاوز ذلك إلى الالتحاق بالثورة السورية الكبرى، التي انطلقت في تموز 1925، في وجه الاحتلال الفرنسي، فشكلوا الفرق المقاتلة، وغدت المناطق الشمالية في شرقي الأردن قواعد لانطلاق المقاتلين السوريين والأردنيين وسط صعوبات فرضتها طبيعة التحالف بين النظام وبريطانيا، والمصالح المشتركة للاستعمارين البريطاني والفرنسي في مواجهة حركة التحرر القومي العربية.

بينما لم يتوقف نضال الأردنيين ضد مشاريع الانتداب البريطاني على فلسطين وسياساته الرامية إلى توفير الشروط الضرورية لقيام الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين على النضال السياسي والاحتجاج والمؤتمرات، وإنما تجاوز ذلك إلى الكفاح المسلح المشترك مع الشعب الفلسطيني. فمنذ نهاية عام 1919، شاركت مجموعات ثورية مقاتلة في مختلف نواحي (بن عبيد، والكورة، والوسطية، والسرو، والكفارات) في الشمال الأردني، إضافة إلى مناطق الوسط والجنوب، بقيادة القائد الوطني أمير اللواء علي خلقي الشرايري في إربد، وأديب وهبه في السلط، في إشعال ثورة مسلحة هاجمت المعسكرات الفرنسية من جهة، والمستعمرات الصهيونية (في المطلة وتل حي والحراء وكفر جلعاد) من جهة ثانية. وظل الأردنيون يشاركون في النضال الفلسطيني بكافة أشكاله بعد تأسيس دولة الإمارة طيلة عقد العشرينيات، في وجه قمع السلطة وضباطها البريطانيين للحركة الجماهيرية. فشارك الأردنيون في المؤتمرات الفلسطينية التي كانت تعقد في وجه الانتداب وسياساته، وضد الاستيطان الصهيوني، إلى جانب ممثلي حركة التحرر العربية في بلاد الشام، وفي المظاهرات التي كانت تخرج في المدن الفلسطينية، حيث عمت المظاهرات عمان والسلط وإربد، وباقي مناطق البلاد، تأييداً للإضراب العام في فلسطين ، وصولاً إلى المشاركة المسلحة في الثورة الفلسطينية 1936 – 1939. إذ دعى حزب اللجنة التنفيذية، الذي انبثق على المؤتمرات الوطنية، إلى عقد مؤتمر وطني في "أم العمد" في 7 حزيران 1936 وكان من أبرز قراراته خوض الكفاح المسلح إلى جانب الشعب الفلسطيني.

ووسط تضامن شعبي عارم تبدى في الحماس للتطوع في صفوف المقاتلين وفي المظاهرات وجمع التبرعات في مختلف أرجاء الأردن، تأييداً ودعماً لكفاح الشعب العربي في فلسطين، أصبح الشمال الأردني الطريق الآمن لنقل مختلف أنواع الأسلحة والذخائر والمؤن من سورية والعراق وشرقي الأردن إلى فلسطين.

وعندما تجددت الثورة الفلسطينية في تشرين الأول 1937 بعد خمود مؤقت، شددت السلطات المحلية والبريطانية في شرقي الأردن من إجراءاتها القمعية، غير أن هذه الإجراءات لم تثن الشعب الأردني ومؤسساته الوطنية عن مواصلة مشاركة الشعب الفلسطيني كفاحه المسلح، فاندلعت الثورات المحلية، خاصة في إقليم عجلون، فهاجم الثوار أنابيب النفط ونسفوها، وزرعوا الألغام في الطرق التي سلكتها قوات النظام وقوات قائد الجيش، بيك باشا، لتعقب المناضلين الأردنيين والسوريين والعراقيين، في محاولة لمنعهم من المشاركة في الثورة.

ومع أنه من غير المتاح التوسع في تفاصيل هذا الدور الوطني ذي البعد القومي في النضال السوري العام ضد الإمبريالية والصهيونية وأدواتها المحلية بسبب الحدود الزمنية للمرحلة التي نتحدث عنها، إلا أنه لا بد من الإشارة هنا إلى بطولات الأردنيين في الدفاع عن فلسطين في معارك باب الواد واللطرون والقدس وغيرها من معارك فلسطين، واستبسالهم في  الخروج على أوامر قيادة الجيش البريطانية وتواطؤ السلطة السياسية، من أجل دعم كفاح الشعب الفلسطيني وتزويده بالسلاح قبل حرب 1948، وخوض غمار الحرب وسط حصار استعماري ورسمي شرس لم يترك لهم سوى لحمهم الحي وإرادتهم الشجاعة يواجهون بهما المؤامرة الإمبريالية- الصهيونية وأدواتها العربية المحلية، وهي الصورة التي تكررت في معركة الكرامة، عقب ذلك بعشرين سنة، عندما انفلت الأردنيون من قبضة وسطوة القيادة السياسية عقب هزيمة حزيران 1967، ليلقنوا، مع رديفهم الفلسطيني المقاوم، الغازي الإسرائيلي درساً لا ينساه.

هل لكل هذا علاقة بوظيفة النظام الأردني الأمنية- السياسية التاريخية ضمن التقسيم الإمبريالي للعمل في المنطقة؟

لا يحتمل البحث إيراد الكثير من الأمثلة على هذا الدور، والتوسع في تفاصيله، ولكن تكفي الإشارة إلى التدخلات العسكرية والأمنية والسياسية الأردنية، التي أعقبت انقلاب 1957 ضد حكومة سليمان النابلسي الوطنية وما أعقبها من حملة شرسة لتصفية الحركة الوطنية الأردنية وأحزابها وضباطها الأحرار، في اليمن أواسط الستينيات وظفار والبحرين أواسط السبعينيات وثورة جهيمان السعودية وسورية إلى جانب الإخوان المسلمين أواخر السبعينيات، وأفغانستان والعراق وليبيا والبحرين مؤخراً، دليلاً على استمرارية هذا الدور، وعلى منهجيته وعضويته.

أما عقب نكبة فلسطين في 1948، فتكفل النظام الأردني بضم الأراضي الفلسيطينية التي عرفت فيما بعد بالضفة الغربية بالتفاهم والترتيب مع بريطانيا والحركة الصهيونية، وبمساعدة من بعض الزعامات الفلسطينية ذات الارتباط التاريخي بالانتداب البريطاني. وبغض النظر عن الوشائج التاريخية للشعبين التوأمين، فإن الغاية من ذلك كانت الحيلولة دون ممارسة الفلسطينيين حق تقرير المصير ووضعهم تحت الوصاية السياسية الأردنية، وتسهيل استيعاب أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين الذين يشردهم قيام الكيان الصهيوني، تمهيداً للإجهاز على هويتهم الوطنية وضمن سياسة منهجية تفضي، في نهاية المطاف إلى أردنتهم قسراً، مستخدماً في ذلك العصا لمن يعمل على ممارسة حق العودة، والجزرة لمن يبحث عن الحلول الشخصية لقضيته الوطنية.

بيد أن للتاريخ قوانينه الصارمة. وهذه الوحدة بين ضفتي الأردن، وما ترتب عليها من حقائق مادية وقانونية واجتماعية وسياسية، قد أنجبت حركة وطنية عظيمة أسقطت حلف بغداد ومشروع أيزنهاور، وألغت المعاهدة الأردنية - البريطانية وطردت الضباط الإنجليز من الأردن، بنضالاتها في شوارع عمان ونابلس وإربد وجنين وجميع مدن الدولة الوليدة، وأرست حقائق لا يمكن إلغاؤها، بالعودة إلى بداية الحكاية، وإنما بالتدخل الثوري الذي يقرأ الضرورة التاريخية جيداً ويبني عليها مقتضاها. وليس أمام الأردنيين والفلسطينيين اليوم إلا إدراك الصورة بمجملها، ضمن حراكها الأردني، والعربي، والعالمي، وبحسب قوانين الجدل التي تحكم هذا الحراك، ليصنعوا مستقبلهم بتلاحمهم وبأيدهم.

فاليوم، وببساطة، من الواضح أن الوظيفة التاريخية للنظام الأردني، الذي ألحق قسطاً هائلاً من الأردنيين بالمصالح المترتبة على دوره من خلال تغول الدولة الأردنية ووظيفتها على المجتمع، هذه الوظيفة قد غدت في مهب الريح. فالأزمة التي يعاني منها النظام الإمبريالي العالمي، وبالنتيجة النظام الرأسمالي برمته، لا تبدو قابلة للحل عن طريق الحروب على غرار ما حدث أيام "الكساد العظيم" في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، بل على العكس من ذلك، وبالتالي فإن الدور الجيوسياسي للدولة الأردنية، ورغم أنه ما زال ضرورياً، لم يعد قابلاً للإعالة، لأن الإمبريالية، وهي تسعى إلى الاستيلاء عل مقدرات العالم، ونفطه على وجه الخصوص، علّ ذلك يوقف انهيارها، لن تترك حتى الفتات للقطاع الخدمي في جغرافيتها السياسية. وعلى الأردن أن يقدِّم خدماته الأمنية والسياسية مجاناً، أو يكاد، بعد أن بيعت كل أصوله الثابتة تقريباً، ابتداء من أراضي العقبة، مروراً بالماء والهواء والثروات المعدنية والمشاريع المنتجة، وليس انتهاء بخدماته الأمنية والعسكرية والاستخبارية واللوجستية القابلة للتسويق في المنطقة، بما في ذلك أن يصبح الأردن، وبحسب التقارير الإخبارية، معقلاً "لبلاك ووتر" سيئة الصيت، وبما يعنيه ذلك من انتقال من دور "المقاول من الباطن" إلى السمسرة لدى مقاولين من الباطن.
فهل يكفي هذا الدور لإعالة مجتمع دُمرت فيه كل سبل الإنتاج، وغدا يعيش على الريع الذي يدره دور لم يعد مجدياً وسط تزاحم الأولويات لدى الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، والجنون المنفلت من عقاله الذي غدا السمة الملازمة لتداعي الديناصور الإمبريالي، ومحاولته، بالضرورة، تدمير العالم والانتقال به كلياً إلى تخوم الهمجية في معركته من أجل الحفاظ على بقائه؟

أمام هذه الصورة، وفي عصر الفوضى الأمريكية الخلاقة، الذي التحق به عربان القرن الحادي والعشرين بلا خجل أو قناع، وبخاصة نواطير النفط؛ وأمام أزمة الصهيونية في إسرائيل الناجمة عن اختلال موازين القوى في المنطقة في غير صالحها، ومحاولتها الخروج من مأزقها السكاني الداهم ونهوض قوى المقاومة وصحوة الجماهير العربية، لا يبقى أمام السيد الأميركي وتابعه الصهيوني، سوى إعلان الأردن دولة للفلسطينيين، علّ ذلك يخلط الأوراق لبعض الوقت.
وهذا لا يلقى هوى، لا لدى الجماهير الفلسطينية، وكل ما عليكم هو الذهاب إلى المخيمات الفلسطينية، وتحسس نبضها في هذا الصدد. ولا يلقى هوى، كذلك، لدى الأردنيين قبل سواهم. فمن ذا الذي سيقيم دولة الفلسطينيين في الأردن؟

أيها السادة، أيتها السيدات،
هذه هي وصفة الفوضى الخلاقة الأردنية. وما يراد لنا هو الغرق في الحديث المبتذل عن حروب السنة والشيعة والعلويين، وحروب العرب مع الفرس والأكراد، وحروب المسلمينة والأقباط، وحروب الشرق الليبي مع الغرب الليبي، وليس أقلها حروب الأردنيين مع الفلسطينيين، الوصفة الجاهزة لدمار الأردن، لا للوطن البديل.

هل يستطيع النظام مواجهة هذه المخاطر، التي لا تخدم مصالحه بالتأكيد، وإن كان يميل إلى استخدامها عندما تقتضي الحاجة ذلك؟ إن هذا يتطلب أن يخرج النظام من تاريخه ومن جلده. وبالنسبة لي، لم أر نظاماً في التاريخ أوغل إلى هذا الحد في العبودية لإملاءات الإمبريالية وخرج من جلده وتاريخه... فما العمل؟

أيها الفلسطينيون، أيها الأردنيون
هذا وطنكم بين أيديكم فاحموه. دافعوا عنه بأن لا تكونوا، أولاً وقبل كل شيء، أداة لتدميره من حيث تدرون أو لا تدرون. والغد يمكن أن يكون مشرقاً.

بالنضال حتى ينصهر الأردن في أتون معسكر عربي مقاوم يوقف حلف الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية عند حده، وينتقل إلى تحرير الأوطان من كل تبعية، ويلغي المعاهدات والشراك التي نسجها هذا الحلف، على طريق تحرير الأرض الفلسطينية، وهذا ممكن، وتقرير الشعب الفلسطيني المناضل مصيره على أرض وطنه. وإلى حين ذلك، فكل أوطان العُرب وطن للفلسطينيين، وكل الشعوب العربية مدعوة  إلى الدخول في التاريخ، لا أن تبقى على هامشه.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق