السبت، 13 أغسطس 2011

متاهة الدولة المدنية

شكل شعار "الدولة المدنية" عنواناً أساسياً في الإحتجاجات الشعبية العربية، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن مفهوم المجتمع المدني مر بمراحل تاريخية متعددة، وكان التعبير عنه والقصدية به تختلف فلسفياً وعملياً من وقت إلى آخر.لقد تطور هذا المفهوم تاريخياً، وحمل معان كثيرة إلى الحد الذي بات معه مطاطاً وواسعاً فوجب حصره في حدود التجربة نفسها كي تصبح هناك إمكانية لتحديد موقف منه! .  قبل الوقوف مع أو ضد لا بد من تشريح المفهوم والإدراك العميق لمعناه، معناه اليوم في سياق هذه الإحتجاجات، وعلاقة هذا المعنى بالحركة وأهدافها.
في تعريف توماس هوبز للمجتمع المدني إعتبر الملكية المطلقة أفضل أشكال الدولة، في ظل إضطرابات كبيرة في إنجلترا في سياق التجربة الأوروبية الأولى في الثورة على الحكم المطلق في القرن السابع عشر! ولكنه كان قد وصف الدولة في كتابه التنين "لويثان" وكأنها وحش بري يلتهم الحقوق المدنية،  ومع ذلك فإنه في نهاية المطاف أخذ الموقف المؤيد للملكية المطلقة على أنها بديل أفضل للطبيعة التي تميز بها البشر من الظلم والصراع.
إستطرد جون لوك في المفهوم في مؤلفه "الحكومة المدنية "، فقد تناول علاقة الرجل بالمرأة وبأطفالهما وقارن هذه العلاقة مع تلك الشبيهة عند الحيوانات ومع تلك التي تربط الحاكم بالشعب، وحلل علاقة السيد بالعبد على أنها علاقة سلطة مؤقتة ومقبولة.
في رأيه كان لا يمكن لأي مجتمع سياسي أن يقوم إلا بالمحافظة على الملكيات الخاصة ومعاقبة المعتدين عليها، وكيفية هذه المحاقظة تكون من خلال أشخاص معينين توكل إليهم هذه المهمة، وبهذا ينقل الإنسان حقه الطبيعي إلى المجموعة، وينقل سلطته التنفيذية "الطبيعية" إلى هذه الهيئة، ومن هنا تظهر أصول السلطات التنفيذية والقضائية وفصلها،...إلخ. وكان يرى أنه إذا إجتمعت مجموعة من الأفراد دون أن تكون هناك سلطة عليا يلجأون إليها في مشاكلهم فإن مجتمعهم يفقد بذلك دعامته الأساسية ويظل الناس على حالتهم "الطبيعية"
ولكن جون لوك في نهاية المطاف خالف هوبز في أفضلية الحكم المطلق فقد رأى فيه حصر للسلطة قي يد عدد قليل من الأفراد، الأمر الذي يناقض أساسيات المجتمع المدني في عدم الإنحياز لفئة محددة، وإعتبر أن الهدف الأساسي من المجتمع المدني المجيء بسلطة عليا تدافع عن الإنسان بدلاً أن يدافع هو عن نفسه بمنطقه "الطبيعي".
نظر آدم سميث إلى المجتمع المدني على أنه مجتمع المبادلات التجارية الحرة الذي يقوم فيه الجميع بنشاطهم التجاري دون قيود، الدولة فيه المراقب والحارس للمصالح الخاصة. ونظر هيجل إلى المجتمع المدني على أنه أسرة كبيرة تحكمها فلسفة الحق والأخلاق.
وللمجتمع المدني تعريف في الطبعة الليبرالية: مؤسسات "غير حكومية" تتبنى برامج "تطوير إجتماعية"، وتصدر تقارير أحياناً عن مستوى عمل الحكومات، وجمعيات تطوعية، ونوادي رياضية، وجماعات الرفق بالحيوان، وضيوف أجانب "حزينين" على مستوى المعيشة في العالم الثالث، وجمعيات حقوق إنسان، ومؤسسات لتعليم أساليب بناء المشاريع الخاصة، وهيئات تربوية لصياغة المناهج بطريقة "حديثة".
أمام "المجتمع المدني" العربي تساؤلات ضخمة كثيرة: هل نرضى بتنين هوبز لأننا سنعود إلى "طبيعة" البشر الأولى في الصراع إن قررنا هدم الحكم المطلق؟ هل يمكن لنا أن نكون "مدنيين" دون أن نكون مصنعين؟ هل أي نظام قادم والتصنيع غير مجدول في أجندته هو نظام مدني؟ هل نحن بحاجة إلى مدنية السلطة أم مدنية المجتمع "لا طوائف ولا أقاليم ولا عشائر،..."؟ هل يمكن "لمدنية" السلطة و"مدنية" المجتمع أن يفترقا؟ هل نريد سلطة "مدنية" على حدود إسرائيل إذا كانت المدنية هي نقيض العسكرتاريا؟ هل المجتمع المدني هو مجتمع المبادلات التجارية الحرة أم مجتمع العدالة الإجتماعية والتوزيع العادل للثروة ومجتمع الضمانات الإجتماعية؟ هل المدنية هي الديمقراطية بزبدها وجوهرها وإن جلبت خياراً يقتلها ذاتها؟
لا بد لنا أن نتوقف عند المفاهيم الرائجة ونفهم معناها، فبلا تحديد وظائف الأشياء قد نضيع فرصاً تاريخية كثيرة. الأثيوبيون وعدوا سابقاً بمجتمع مدني يخلصهم من "الديكتاتور" مانجستو، العديد منهم اليوم يلقب منجستو....."محمد".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق